منذ دخولنا لعالم الدراسة والنظام التعليمي الغريب الذي وللأسف لا نستطيع العبور إلى الحياة في منظومتنا وعالمنا العربي إلا من خلاله ..ونحن نألفه بقالب ثابت يكاد يُجمع على طريقة واحدة تصفه، عفا عليها الزمان في الدول التي تهتم بالإنسان ..
ومما يجمعنا عربياً في الفشل وفي الخدعة هو أن أرباب التعليم أوهمونا أن النجاح في الحياة يتم من خلال دراسة الكيمياء والفيزياء والأحياء والرياضيات ..وغيرها من الكم العلمي الذي يتم "حشوه" خلال سنيّ الدراسة الثنتي عشر -الطويييلة جداً- وخلال تلك الأعوام الطويلة يكاد لا يُعطى أي هامش يُذكر لمهارات ومواهب كالرسم والرياضة والفن والموسيقى والغناء والشعر وغيرهم من التي يُصبح مُتقنيها الأكثر شهرةً وثراءً وإبداعاً على مستوى مرموق جداً ..
ما يحدث هو على العكس انعدام للاهتمام بها ما يجعلها شيئاً عابراً في حياة من امتلك شيئاً أو بذرةً منها ..
ما يحدث هو على العكس انعدام للاهتمام بها ما يجعلها شيئاً عابراً في حياة من امتلك شيئاً أو بذرةً منها ..
فعلى سبيل المثال، كانت حصة الرياضة عادةً ما تكون واحدة فقط في الأسبوع وتوضع في آخر الجدول اليومي بحيث يُفضل ويميل غالبية الطلاب للعودة لمنازلهم بعد اليوم المرهق بدلاً من "تعلم" أو ممارسة الرياضة ..أما إن كانت في مكان متوسط من اليوم فلا تعدو عن أن تكون امتداد لما كنّا نمارسه من كرة قدم بقوانين الشارع ..
والأصل أن تكون أكثر من حصة ..وأن تكون تعليمية ومتعددة لا أن تقتصر فقط على كرة القدم ..ولا أبالغ إن قلت أنه يجب أن يكون للرياضة طاقم متكامل مختص في عديد من الفروع من كرة القدم والسلة والطائرة ..وحتى تمارين السويدي وابتكاراتها التي لا تنتهي ..
أما في الخط العربي والذي يُعد أحد فروع وطرق الفن، فكانت له كراسة مرفقة في كل عام، وكانت حصته -إن تم تخصيص واحدة- هي للاستغلال لتكملة العجز في الحصص الأخرى من نحو وقراءة وغيرها، أو إن سمح الوقت، فممارسة النسخ لمحتوى الكراسة دون أي نوع من التوجيهات ..
أذكر أنني كنت من أصحاب الخط المتواضع جداً، وكانت نقطة اعتراض أساتذتي الدائمة لأنه أنسب لمستوايا العلمي خط جميل يليق به ..
حتى الصف السادس الابتدائي ..استمرت المشكلة ..إلى أن رزقنا الله بمُدرّسة جعلت حصة الخط ..حصة مخصصة حقاً للخط وتعليمه ..وكانت مبادرة ذاتية منها ..أي أنها حالة لا تصلح للتعميم بأي حالٍ من الأحوال ..
وكانت مفاجأة لي على صعيدي الشخصي أن للكتابة قواعد وأصول يمكن نقلها فعلاً وتعليمها للطلاب ..وكفيلة بتحسين من الخط بصورة ملحوظة ليصبح مقبولاً..
لا زلت أحتفظ بأحد دفاتري -لمادة الجغرافيا- من ذلك العام ..وفيه مساحة تُظهر التحسن بين المرحلتين ما قبل حصة الخط تلك، وما بعدها:
ولم تكن حصة الرسم من السابقيين ببعيد ..فكانت تُعطى لأي مدرس لديه مساحة من الفراغ .. بغض النظر عن تخصصه، فإما أن تكون للدردشة ..أو للرسم بناءً على ما لدينا من معرفة، لم نحصل عليها أصلاً ..!
لكن ..وكما الخط ..أذكر في إحدى السنوات ..وتحديداً الثالث الإعدادي ..كان مدرس الرسم مختص بالرسم وله لوحات فنيّة جميلة ..
وكما الخط أيضاً ..كان التخصص له أثره، فأدخل في الحصة ألوان "الغواش" وتعلمنا على يديه بعض المهارات والتقنيات التي تعطي مخرجات جمالية ..
لذا ..في الحالتين الماضيتين رد مستبق على من قد يقول بأن تلك مواهب لا دخل للتعليم فيها ..والرد الآخر هو أنه كيف تُكتشف الموهبة دون استثارتها ..بل كيف تُنمى دون أن تُفتح لها الآفاق ..!
تلك الجوانب الجميلة ليست بالضرورة أن تؤتي ثمارها بتخريج كل الطلاب فنّانين ولاعبي كرة قدم أو رياضيين مشهورين ..أو من أهل الموسيقى والفنّ ..بل الجمال الكامن فيها هي ما تخلقه داخلهم من روح محلّقة ..ومن ارتفاع في هرمون الإنسانية ..
أما المصيبة الأعظم فهي ليست أن تلك الجوانب الجميلة كانت طي الإهمال التام ..لأن التركيز كان على تخريج جهابذة ومحترفين في المواد العلمية والأدبية ..بل حتى تلك كانت حشواً متواصلاً ..وتلقيناً لا ينتهي ..دون أي مِسحة من الإبداع أو التجديد ..
المشكلة باختصار في أنظمتنا "التعليمية" أنها ليست تعليمية على الإطلاق ..ائتوني بحالات أصلحت فيها المدرسة حال طلاب ورفعت من مستواهم التحصيلي ..؟!
العلم كان يُحصلّه بالطريقة المتبعّة أصحاب الإمكانيات والمواهب فقط، وكانوا معدودين ..أما بقية الطلاب فكانوا ضحية وفريسة لهذا النظام القاتل للعقول ..وبالتالي من الظلم للعلم أن نسميّه نظاماً تعليمياً ..بل نظاماً تمريرياً ..أو نقلياً ..لا أكثر ..فرسالة التعليم السامية هي خلق الإنسان والسمو به ليجد حقيقة نفسه وإمكاناته..
والحديث في هذا الجانب تحديداً يطول ..لكن باختصار ..تجاوزت الدول المتقدمة مرحلة التقليدية ..إلى التخصصية منذ مراحل مبكرة، فأصبح اكتشاف ميول واهتمامات الطالب كل كحالة منفردة، هو المقياس الأهم للانطلاق مع الطالب والتركيز على الاتجاهات التي تحمل أعلى احتمالية لإبداعه ..
ختاماً ..في إصلاح التعليم حقاً إصلاح لكافة نواحينا العربية المتآكلة من الاجتماعية ..وانتهاءً بالسياسية ..أما كل محاولات تغيير رأس الهرم الحالية لن تؤتي ثمارها في ظل المنظومات التي تُكرر نفسها ..بل وتنحدر إلى "مزيد" من القاع!