منذ حوالي الأسبوعين، كنت في السيارة عائداً للبيت من العمل، فطرق أذني حديث رجل كان يجلس في الخلف وهو يُكلم أحدهم من خلال هاتفه المحمول ليخبره بالنتيجة التي توصل إليها أخيراً ..قالها نعم وصدح بها .."لقد بت غير مقتنع بأن الأرض كروية!" .. أطار التعب من عينيّ ورأسي ..وكنت أتمنى أن أدخل معه في نقاش تلك النتيجة المذهلة ..لولا أن مكالمته طالت ..بالإضافة لأن سيدةً كانت تجلس في الخلف إلى جواره، حالت دون التواصل للنقاش ..إذ لا يُمكن الالتفات بطبيعة الحال!
لم يقتصر الأمر معي خلال الفترة الماضية عند هذا الحد، بل تخطاه للمشاركات التي باتت تظهر تباعاً على فيسبوك، بأن العلوم ما هي إلا كذبة كبيرة، وأن وكالة الفضاء الأمريكية "ناسا" منظمة ماسونية تآمرت على الكون، والأرض مسطحة قد كذبوا علينا ..إلخ
حسناً ..
المشكلة عندي ليست في أن الطرح قد تجاوز زمانه بمراحل ..وأن الزمن الذي كان يُنعت فيه من يقول بـ"كروية الأرض" بأنه "مرهطق" قد ولى ..المفترض بلا رجعة ..لكن مشكلتي أن من يُنافحون يخرجون بمبررات لا ترقى للدلائل ..كأن يقولوا مثلاً بأنه لو كانت الأرض كروية لما كانت صالحة إلا في الجزء العلوي ..ولسقط مَن ..وما يقع على الجوانب ..! أو لانسكبت المحيطات في الفضاء ..!
طبعاً الحديث يمتد ويشمل فكرة قرب الشمس والقمر ..وأنهما ليسا على المسافات التي "يزعمها" العلم ..بل أقرب بكثير ..والأدلة الكاميرات التي تقوم بعمل "زووم" فتظهر تفاصيل ..من غير المنطقي أنها تظهر لو كانوا بذاك البُعد المدَعى!
إضافة لذلك فقد طال الأمر النجوم، وأنا لا تتجاوز في بعدها المائة ميل، ومنهم من ذهب للاستشهاد بالنص القرآني حول الشهب، وأنها "نجوم" تُرجم بها الشياطين ..
"ولقد زيّنا السماء الدنيا بمصابيح وجعلناها رجوماً للشياطين"
والمعروف أن الشهب صخور صغيرة، وبالتالي، إذا كانت النجوم بالمسافات والأحجام التي "يدعيها العلم" فهذا يُخالف صريح القرآن ..! أليس كذلك؟
ليس كذلك بالتأكيد ..لأن المشكلة فيمن جعل القرآن الكريم كتاباً للمصادر العلمية و"الإعجاز" العلمي ..إن صح التعبير ..فهو كتاب مبين ..هدىً للناس لأمور دنياهم وآخرتهم ..وليس كتاب في الفلك أو الطب أو الجغرافيا ..كما اجتهد فيه الكثيرون فوقعوا فيما لا يُحمد عقباه ..
شاهدت فيديو لسوس يتحدث فيه عن أنه من منظور علمي معين يمكن الاقتناع بفكرة أن الأرض مسطحة ..بالتأكيد أي منظور علمي هو نقاش يمكن تقبل سماعه، ولذلك سأضيف الفيديو في نهاية المقال ..
لكن ..لن أدخل في نقاش تفاصيل أدلة مجتمع الأرض المسطحة كما يُطلقون على أنفسهم ..وسأكتفي برد من منظور "المؤامرة" ذاته ..
في العلم ..يصعب جداً ..جداً ..جداً ..وقوع مسألة التواطؤ ..لأنه يشترك فيه أناس من مشارب ومذاهب وأديان وأعراق مختلفة من كافة أنحاء العالم ..قد يُجري أبحاث فريق بحثي في أمريكا في موضوع معين، ويُجري فريق آخر في الصين في نفس المجال ..والأبحاث تُحّكم ..ولها قواعد صعبة قبل النشر والاعتماد وارتقائها لمراتب الحقائق والمسلمّات ..وبالتالي يصعب ..بل يستحيل التواطؤ ..وإلا لكُشف الاحتيال ولم يُعمَّر كل تلك السنون!
الحجة الأخرى هي سؤال لمنكري الكروية ..وعلوم الفلك الحديثة كذلك..لماذا تصدق العلماء والعلم في مواضع ..وتتركه في مواضع أخرى ..بشكل انتقائي ..فالعلماء على سبيل المثال، طوّعوا الموجات اللاسلكية ..التي لا تراها ..لكنك تستخدمها الآن للتواصل ..ولنقل الفيديوهات التي تدعي فيها خطأ و"مؤامرة" العلماء!!
الفكرة .. أن لا حجْر على أي فكرة ..لكن نُهيب بأربابها أن يكونوا حتى على غرابة ما يطرحوه "علماء" ..وعلميين ..
هل الأرض فعلاً مسطّحة؟ (فيديو سوس)
ملخص لأبرز أدلة القائلين بأن الأرض مسطحة ..
أختم بشعر لابن عبد ربه ..صاحب العقد الفريد، في إنكاره وهرطقته لأحد الفلكيين العرب في عصره، ويُدعى أبو عبيدة، في قوله بـ"كروية الأرض" ..
يبدأ فيقول:
أبا عبيدة والمسئولُ عن خبرٍ *** يحكيه إلا سؤالاً للذي سألا
أبيت إلا شذوذاً عن جماعتنا *** ولم تُصب رأي من أرجا ولا اعتزلا
إلى أن يقول:
وقلتَ إن جميع الخلق في فلكٍ *** بهم يُحيط وفيهم يقسم الأجلا
والأرض كوريةٌ حفَّ السماء بها *** قد صار بينهما هذا وذا دولا
فإن كانون في صنعا وقرطبةٍ *** بردٌ، وأيلولُ يُذكي فيهم الشُعلا
هذا الدليل ولا قولٌ غررت به *** من القوانين يُجلى القول والعملا
كما استمر ابن موسى في غوايته *** فوعّر السهل حتى خلته جبلا
أبلغ معاوية المصغي لقولهما *** أني كفرتُ بما قالا وما فعلا
0 التعليقات:
إرسال تعليق