نعم ..قيّمته بالخمسة نجوم ...
فعلتُ ذلك رغم المعاناة التي استغرقها مني هذا الكتاب في محاولات فهمه ولمّ تراكيبه ..!
وكنتُ لأفعل ذلك دون قرائته حتى ..بمجرد أن يكون كاتبه العقاد ومحتوى حديثه عن الشيخ الرئيس ابن سينا ..
حقيقةً ..لم أكن أعرف الكثير عن ذلك المبدع ..العقل الذي لم يتكرر -ابن سينا- سوى من الإشارات البسيطة أيام الدراسة ..
أما قيمته الفلسفية ..وقامته العلمية ..فأوقفني هذا الكتاب على كثير من ومضاتها ..
تخيّلوا أن الشيخ الرئيس الذي اشتُهر بين أوساطنا بتفوقه وبراعته في الطب، كان يرى الطب علماً سهلاً ..وبلغ فيه مرتبة المبدعين وهو ابن الحادية والعشرين، حيث عالج ابن الأمير، وكان له صيتاً ..
على هامش الكتاب في نهايته، في نهايته يذكر العقاد بعضاً من حذاقته في الطب، واستخدامه للحلول التي تنضوي على ذكاء باهر ..!
أما موضوع الكتاب الرئيس ..فهو الحديث عن فلسفة الشيخ الرئيس ..
ابتدأ العقاد من الحديث عن مكان نشأته، وعن الفلسفات التي أثرت في ذلك المكان في ذلك الوقت، من سقراط، أفلاطون، أرسطو، أفلوطين، الفارابي، الإسكندر الأفروديسي وفرفريوس .. والتي اعتقد أنها كوّنت أو وصلت إلى ابن سينا ..فأثرت في فلسفتها أو اشتركت معه ..وذلك ليوضح كذلك إسهامات ابن سينا وأين زاد على آرائهم ..
مع كل فيلسوف ..لخّص العقاد آراءه في:
1- وجود العالم
2- النفس
3- الحرية الإنسانية (القضاء والقدر)
4- الخير والشر
وفي الحقيقة ..كانت طريقة طرح مميزة ..لكن رغم أنه ملخص ..إلا أن التعقيد والصعوبة في فهم ما يُطرح كان سيد الموقف!
معروف عن العقاد صعوبة الأسلوب والتراكيب ..فكيف إذا اجتمع العقاد مع النقل الفلسفي ..!!!
بالتأكيد هذه العناوين هي العناوين الرئيسة لأي نقاش فلسفي ..قديم ..ولفت انتباهي أن كثيراً منها كان مبنيّا على رؤية قديمة للعالم والأفلاك ..التي كانوا ينظرون إليها على أنها عقول سيّارة في الكون، لأجد أن العقاد قد علّق على هذا الأمر وأدلى بدلوه في آخر الكتاب ..
من فلسفة ابن سينا التي ساقها العقّاد ..لفت انتباهي أنها تقوم على شيء من القسرية في الوجود ..وجود الإنسان
يقوم مذهبه في العالم ..وبالتالي في الحرية الإنسانية ..على أن الأشياء "ممكنة الوجود" سبقت في علم الله فأصبحت واجبة الوجود ..بغيرها
فهي إذن ممكنة بذاتها ..واجبة بغيرها ..أو بين مزدوجين بإرادة غيرها
ومعنى هذا أن لا خيار للإنسان في وجوده ..ولا خيار له فيما يُبدى من أحداث يعيشها ..أو يقوم بها ..
يقول ابن سينا في رسالة المعاد:
" إن مجيئنا إلى هذا العالم لم يكن باختيارنا وإرادتنا ولكن جئنا وبالقهر نمكث وبالقهر نخرج وإنما
جئنا بها للتمحيص والتطهير"
ــــــــــــــــــــــــــــــــــ
من الأشياء الغريبة التي لفتت نظري في الفلسفات القديمة ..أنها كانت تملك فكرة تقسيم الكائنات العلوية إلى مستويات من العقول ..فيقول العقاد في شرح هذه الفكرة عن ابن سينا ومن سبقوه في نفس القول:
"فالمحرك الأول قد صدر عنه محرك الفلك الأعظم، وهو العقل الأول.
والعقل الأول صدر عنه الفلك الأعظم والعقل الثاني.
وهكذا إلى العقل التاسع، ثم العقل الفعال وهو العقل العاشر الذي يسيطر على
العالم الأرضي وما تحت فلك القمر، وعنه تصدر النفوس والأجسام في عالم الإنسان."
وهي رؤيا تتفق من وجهة نظري في المنظور القديم للعالم والسماوات والأفلاك كما تقدم الذكر ..حيث تنظر للكون على أنه سماوات سبع كالطبقات ..وهو ما يُخالف بالتأكيد ما كشف عنه العلم الحديث ..ولهذه النقطة عودة مع رأي العقاد في نهاية الكتاب ..
ولا يمكن أن نحكي مما حكاه العقاد عن مذهب ابن سينا ..دون أن نُشير إلى رؤيته للنفس ..
يرى ابن سينا أن النفس صدرت عن كيان علوي طاهر ..وأنها هبطت إلى الحياة المادية والعالم الإنساني فتلوثت بنقص المادة، فأصبحت النفس في سجنها الجديد المكبّل بالنقص في صراع ومحاولة مستمرة للعودة للمعارج العليا التي هبطت منها ..رغم أنها في بعض أحيانها تغفل عن ذلك بسبب انجذابها لشهوات الجسد التي تجرها للعالم السفلي ..
يقول ابن سينا في قصيدة من أروع ما قرأت ..حول النفس ..
هَبَطَتْ إِلَيْكَ مِنَ المَحَلِّ الأَرْفَعِ
وَرْقَاءُ ذَاتُ تَعَزُّزٍ وَتَمَنُّـــعِ
مَحْجُوبَةٌ عَنْ مُقْلَةِ كُلِّ عَارِفٍ
وَهْيَ الَّتِي سَفَرَتْ وَلَمْ تَتَبَرْقَـعِ
وَصَلَتْ عَلَى كُرْهٍ إِلَيْكَ وَرُبَّمَا
كَرِهَتْ فِرَاقَكَ وَهْيَ ذَاتُ تَفَجُّعِ
أَنِفَتْ وَمَا أَلِفَتْ فَلَمَّا وَاصَلَتْ
أَنِسَتْ مُجَاوَرَةَ الخَرَابِ البَلْقَـعِ
وللقصيدة بقية يمكن العودة إليها ..
في نهاية الكتاب ..يُعرّج العقاد إلى مهارته في الطب كما ذكرت ..وبراعته في الأدب ويذكر كيف كان موقفاً واحداً سبباً لانكبابه على اللغة لثلاث سنوات حتى فاق ذلك الرجل الذي نفى عنه إمكاناته اللغوية في أحد مجالس الأمير ..
ثم يُدافع العقاد عن عقيدة الشيخ الرئيس ..وأنه كان مؤمناً ..ويناقش ما نُسب إليه من أشعار في مناجاة لعطارد وخلافه، وأنها نبعت من فلسفاته ونظرته لفكرة تدرج عقول الأفلاك العلوية ابتداءً ..
في نهاية الكتاب ..يُدلي العقاد بدلوه فيما ذكره من فلسفات ..ويُشير إلى الفكرة التي تحدثت عنها من أن تلك الفلسفات بُنيت على نظرة قديمة للعالم لا تتفق وما وصلت إليه العلوم الحديثة، لكنه يذكر ويؤكد في المقابل أن الأسس ثابتة، ويمكن استخدامها من قبل الفلاسفة المحدثين، وهو ما يحدث وحدث ..
إضافة لذلك ..ناقش العقاد ما طرحه طيلة الكتاب من آراء الفلاسفة المختلفين حول اتصال العقل والمادة، حيث قالوا جميعهم باستحالة اتصالهما
"فإنهم جزموا بأن هذا الاتصال مستحيل بغير واسطة. ونحن لا ندري من أين
جاءت هذه الاستحالة إذا كنا لا نعرف ماهية العقل على التحقيق ولا ماهية المادة على
التحقق؟ وعندنا أن القول بأن العقل يؤثر في المادة أيسر جدٍّا من القول بأن الكائنات في
وجود واحد تتألف من أصلين متناقضين أو منعزلين، وأن التأثير بينهما معدوم."
ختاماً ..ما أريد أن أذكره قد يُثير العواصف -إن أكمل أحد قراءة مراجعتي حتى النهاية - ولكن ما لفت انتباهي في كل الفلسفات هو أنها في نقاشها لباب الخير والشر، تفترض أن الخير مطلق ..وهو صادر بالضرورة عن واجب الوجود ..وعن العلّة الأولى -الإله- في المقابل فإن الشر حادث، وصادر عن العالم الذي هو ممكن الوجود ..وبه النقص ..ومحدود ..فيصدر عنه الشر كنقيض للخير في طريقه نحو الذات العليا المجردة ..والمقدسة في محاولة تحقيق الكمال ..
السؤال ..كيف افترض الفلاسفة هذه الفرضية .. ؟!
وبمعنى آخر ..وصريح:
ماذا لو بنينا على الشر ما افترضناه للخيرية ..بمعنى ما الدافع أو السبب للفرضية الأولى بأن الكون قائم في أساسه على الخير المطلق ..وأن الشر محدود ..؟
ماذا لو كان الإله شريراً ..؟!
من قام بتحديد هذا العرف؟ ومن يملك الحق في ذلك؟!
هي ليست بالتأكيد أسئلة كفرية ..بقدر ما هو تأثر فلسفي بما نوقش في هذا الكتاب.. ولكن انطلاقاً من مبدأ الخير كما ذكرت ..لكن أعتقد من وجهة نظري المتواضعة أن ما تسائلت به كان يجب أن يكون المبحث والسؤال الأول ..
حينما بدأت في كتابة المراجعة ..تصورت أنني سأكتب هذين السطرين وأمضي:
"لم أفهم شيء ..سأعاود قراءته مرة أخرى وأعود"
لكن حقيقةً ..تفاجئت بحجم ما كتبت ..ولم أعد للكتاب إلى مرة أو مرتين للاقتباسات التي أوردتها ..ذلك أنني لم أكن أتخطى صفحة منه دون أن أحاول أني أعي تماماً ما قيل ولو استغرقت الصفحة يوماً كاملاً ..أو اضطررت لإعادتها عشر مرات ..لا فرق ..فاستغرق كتاب من 74 صفحة ..ما يستغرقه كتاب آخر أو رواية من 400 صفحة على أقل تقدير ..!
في كل الأحوال ..ما زال تقييمي أنني لم أفهمه تماماً ويحتاج إلى عودة مرة أخرى ..أو قراءة ما هو على شاكلته
وحقيقةً ..أشعر برغبة في نشر هذه المراجعة ..دون مراجعة لأرى كيف ستخرج وهل ستحمل من متناقضات؟!!
ودمتم فلاسفة :)