لا أدري كيف مرّت كل تلك السنون من عمري..دون
أن أقرأ أهل الكهف ..!
رائعةَ المبدع توفيق الحكيم التي تُرجمت
إلى الفرنسية والألمانية، والتي أسهرت ليلي حتى مقربةٍ من مطلع الفجر، رُغم تضوري
جوعاً للنوم ..لكن حقاً لم أستطعه قبل إنهائها!
كلنا يعلم أن النص الوحيد المتواتر
والمتداول في إرثنا التاريخي للحكاية هو النص القرآني في سورة الكهف، وبعض من التفاصيل
في التفسيرات وخلافه هي من إرث من سبقنا من الحكايات التي وردت في تراثهم تتحدث عن
أولئك القوم النيام السبعة، الذين كانوا ثلاثةً رابعهم كلبهم في مسرحية توفيق الحكيم
الكتابية.
حقّاً ..كم قرأنا سورة الكهف، لكن أغلبنا
كان يعوم على السطح، دون أن يمتلك الجرأة للغوص في تخيّل تفاصيل القصة، تفاصيل
الأحداث وردّات الفعل والحوارات، والانفعالات ..المشاعر التي اجتاحت القوم حين
استيقظوا وهم على يقين تام في قرارات أنفسهم أنهم ما ناموا إلا يوماً أو بعض يوم!
ثم الانقلابة المخيفة حينما تتبين لهم الحقيقة!
لم نتساءل يوماً إن كان الفتيّة حقاً مسرورين،
راضيين ومطمئنين بما حدث لهم من سُبات طويل جداً أم أن هول الفكرة قد يعصف بكل
شيء؟!
كيف كان اجتماعهم ..وما حقيقةُ إيمانهم ..!
كيف مرّت الأحداث بكل فردٍ منهم بعد خروجه من الكهف ..بعد ثلاثمائة سنين وازدادوا
تسعا ..! ولماذا يا تُرى كانت هذه المدة بالتحديد دون غيرها؟!
الحكيم ..غاص في كل تلك التفاصيل وغيرها
..لا أدري هل كانت كلها من نسج خياله ..أم أنه استند لبعض الحكايات التاريخية
وحكايات التراث ..
وبمناسبة حكايات التراث ..فقد روى الحكيم
بطريقة بديعة، قطّعها على نصفين باحترافية روائية، قصة من التراث الياباني عن شاب يُدعى
أوراشيما، عاش تجربة مماثلة، وغاب عن قومه أربعة قرون في (مملكة البحر).
السرّ في جمال ما خطّه الحكيم هو في
إسقاطاته وإضاءاته الواقعية للقصة، وفي تعامله مع النفس الإنسانية وكأنه يتمثل
أمامه الحوارات التي تدور في كل مشهد، حتى لكأني به نقل اختلاجات نفوسهم ورفّات
قلوبهم ..وإيماءات وجوههم!
من وجهة نظري ..جاءت إضاءاتين بالتحديد،
بمثابة الأكثر سطوعاً.
الأولى: القوة العظيمة للحب ..فهو أعظم الروابط قاطبةً ..ويحمل أبلغ الأسباب.
فهو يمنح للحياة معنى إن حضر..أو ينزعه إن غابَ أو أشاح بوجهه.
كان هذا المعنى في التفاصيل التي عاشها كل
واحد من الثلاثة ..
فأما الراعي يمليخا ..فكان أولهم انسحاباً
إلى الكهف ..بعد قومته لأنه أدرك أن أغنامه التي تركها في مكان أمين -وكان هذا
منتهى حبه- ما عاد لها وجود ..وانتهى رابطه مع الحياة بذهاب أغنامه، وبشعوره
بالشذوذ عن الواقع والناس والتاريخ.
وأما الوزير مرنوش ..فقد كان يتحرّق شوقاً
للقاء ولده وزوجته، ويحرص أيما حرص أن يعود بالهدية التي وعد ابنه بها ..
وآخرهم مشلينيا ..الذي لا يُطيق بعداً عن
محبوبته ابنة الملك الوثني دقيانوس ..التي كانت على دينه، وكان الغرام بينهما هو
الرابط الأشد والأقوى ..!
الثانية: هي التسليط الشديد الذي أسقطه الحكيم على عقول الفتية. كيف لها أن
تستوعب حقيقة الانفصال عن التاريخ لثلاثة قرون ..ثم العودة إليه. كيف لعقلٍ بشري
أن يُطيق هذا الأمر دون أن يتقاذفه الشك والإيمان، أو أن يشكّ هل هو في واقعٍ أم
يسرح في خيالاتٍ من أحلامه!
كيف يُمكن أن يراك الناس ..وكيف ترى أنت
الناس لو مررت حقاً بهذا الأمر؟! أيُّ عقلٍ يستوعب!
ولذلك ..كانت من أعظم الرمزيّات قاطبةً
التي وظّفها الحكيم، هي رمزية الكهف ..رمزيته كملجأ من الحياة الخارجة عن نطاق
الاستيعاب والمألوف .. الحياة التي يصعب أن تندمج بها، فتشعر بالغربة ..وإن كان
العنوان العام أنها بلدك وبلدتك ..! أن تختار العودة إليه –أي الكهف- بكامل
اختيارك، بعد أن مُنحت هبّة قد يراها الناس عظيمة ..لكن لأنك فقدت عظيمَين رابط
الحب ..ومنطق العقل ..!
تألق الحكيم في وضع المشهد الأخير ..مشهد
العودة إلى الكهف ..مشهد الشك فيما عاشوه من أحداث ..حتى بدت لهم حلماً ..لا يمكن
أن يكون حقيقة!
مشهد موت الراعي وهو لا يدري أهو ميّت أم
حي ..مستيقظٌ أم نائم ..
مشهد موت مرنوش ..وهو يترنح بين الشك
واليقين في إيمانه ..بل ربما مجرداً منه ..
وأخيراً المشهد الخرافي لموت مشلينيا على
ذراعي بريسكا ..شبيهة محبوبته التي عاشت قبل ثلاثة قرون ..والتي وقع أخيراً في
حبّها ..ثم اختيارها المجنون ..الذي وكأني بالحكيم يُجسد فيه المثل الشهير:
"الحب أعمى ..يقوده الجنون".
على جود ريدز ..يمكن تقييم أي كتاب كحد
أقصى بخمس نجوم ..أما هذا من الظلم تقييمه بأقل من 7 ..
رابط التحميل ..لمن يُحب الغوص .. وبالأسفل
مجموعة منوّعة من الاقتباسات.
قراءة ممتعة ..