تعديل

الاثنين، 21 أغسطس 2017

نزهة لا تُملّ ..في تحفة أهل الكهف ..


لا أدري كيف مرّت كل تلك السنون من عمري..دون أن أقرأ أهل الكهف ..!
رائعةَ المبدع توفيق الحكيم التي تُرجمت إلى الفرنسية والألمانية، والتي أسهرت ليلي حتى مقربةٍ من مطلع الفجر، رُغم تضوري جوعاً للنوم ..لكن حقاً لم أستطعه قبل إنهائها!



كلنا يعلم أن النص الوحيد المتواتر والمتداول في إرثنا التاريخي للحكاية هو النص القرآني في سورة الكهف، وبعض من التفاصيل في التفسيرات وخلافه هي من إرث من سبقنا من الحكايات التي وردت في تراثهم تتحدث عن أولئك القوم النيام السبعة، الذين كانوا ثلاثةً رابعهم كلبهم في مسرحية توفيق الحكيم الكتابية.

حقّاً ..كم قرأنا سورة الكهف، لكن أغلبنا كان يعوم على السطح، دون أن يمتلك الجرأة للغوص في تخيّل تفاصيل القصة، تفاصيل الأحداث وردّات الفعل والحوارات، والانفعالات ..المشاعر التي اجتاحت القوم حين استيقظوا وهم على يقين تام في قرارات أنفسهم أنهم ما ناموا إلا يوماً أو بعض يوم! ثم الانقلابة المخيفة حينما تتبين لهم الحقيقة!

لم نتساءل يوماً إن كان الفتيّة حقاً مسرورين، راضيين ومطمئنين بما حدث لهم من سُبات طويل جداً أم أن هول الفكرة قد يعصف بكل شيء؟!
كيف كان اجتماعهم ..وما حقيقةُ إيمانهم ..! كيف مرّت الأحداث بكل فردٍ منهم بعد خروجه من الكهف ..بعد ثلاثمائة سنين وازدادوا تسعا ..! ولماذا يا تُرى كانت هذه المدة بالتحديد دون غيرها؟!

الحكيم ..غاص في كل تلك التفاصيل وغيرها ..لا أدري هل كانت كلها من نسج خياله ..أم أنه استند لبعض الحكايات التاريخية وحكايات التراث ..


وبمناسبة حكايات التراث ..فقد روى الحكيم بطريقة بديعة، قطّعها على نصفين باحترافية روائية، قصة من التراث الياباني عن شاب يُدعى أوراشيما، عاش تجربة مماثلة، وغاب عن قومه أربعة قرون في (مملكة البحر).

السرّ في جمال ما خطّه الحكيم هو في إسقاطاته وإضاءاته الواقعية للقصة، وفي تعامله مع النفس الإنسانية وكأنه يتمثل أمامه الحوارات التي تدور في كل مشهد، حتى لكأني به نقل اختلاجات نفوسهم ورفّات قلوبهم ..وإيماءات وجوههم!
من وجهة نظري ..جاءت إضاءاتين بالتحديد، بمثابة الأكثر سطوعاً.
الأولى: القوة العظيمة للحب ..فهو أعظم الروابط قاطبةً ..ويحمل أبلغ الأسباب. فهو يمنح للحياة معنى إن حضر..أو ينزعه إن غابَ أو أشاح بوجهه.
كان هذا المعنى في التفاصيل التي عاشها كل واحد من الثلاثة ..
فأما الراعي يمليخا ..فكان أولهم انسحاباً إلى الكهف ..بعد قومته لأنه أدرك أن أغنامه التي تركها في مكان أمين -وكان هذا منتهى حبه- ما عاد لها وجود ..وانتهى رابطه مع الحياة بذهاب أغنامه، وبشعوره بالشذوذ عن الواقع والناس والتاريخ.



وأما الوزير مرنوش ..فقد كان يتحرّق شوقاً للقاء ولده وزوجته، ويحرص أيما حرص أن يعود بالهدية التي وعد ابنه بها ..



وآخرهم مشلينيا ..الذي لا يُطيق بعداً عن محبوبته ابنة الملك الوثني دقيانوس ..التي كانت على دينه، وكان الغرام بينهما هو الرابط الأشد والأقوى ..!






  
الثانية: هي التسليط الشديد الذي أسقطه الحكيم على عقول الفتية. كيف لها أن تستوعب حقيقة الانفصال عن التاريخ لثلاثة قرون ..ثم العودة إليه. كيف لعقلٍ بشري أن يُطيق هذا الأمر دون أن يتقاذفه الشك والإيمان، أو أن يشكّ هل هو في واقعٍ أم يسرح في خيالاتٍ من أحلامه!  
كيف يُمكن أن يراك الناس ..وكيف ترى أنت الناس لو مررت حقاً بهذا الأمر؟! أيُّ عقلٍ يستوعب!

ولذلك ..كانت من أعظم الرمزيّات قاطبةً التي وظّفها الحكيم، هي رمزية الكهف ..رمزيته كملجأ من الحياة الخارجة عن نطاق الاستيعاب والمألوف .. الحياة التي يصعب أن تندمج بها، فتشعر بالغربة ..وإن كان العنوان العام أنها بلدك وبلدتك ..! أن تختار العودة إليه –أي الكهف- بكامل اختيارك، بعد أن مُنحت هبّة قد يراها الناس عظيمة ..لكن لأنك فقدت عظيمَين رابط الحب ..ومنطق العقل ..!




تألق الحكيم في وضع المشهد الأخير ..مشهد العودة إلى الكهف ..مشهد الشك فيما عاشوه من أحداث ..حتى بدت لهم حلماً ..لا يمكن أن يكون حقيقة!
مشهد موت الراعي وهو لا يدري أهو ميّت أم حي ..مستيقظٌ أم نائم ..



مشهد موت مرنوش ..وهو يترنح بين الشك واليقين في إيمانه ..بل ربما مجرداً منه ..



وأخيراً المشهد الخرافي لموت مشلينيا على ذراعي بريسكا ..شبيهة محبوبته التي عاشت قبل ثلاثة قرون ..والتي وقع أخيراً في حبّها ..ثم اختيارها المجنون ..الذي وكأني بالحكيم يُجسد فيه المثل الشهير: "الحب أعمى ..يقوده الجنون".

على جود ريدز ..يمكن تقييم أي كتاب كحد أقصى بخمس نجوم ..أما هذا من الظلم تقييمه بأقل من 7 ..

رابط التحميل ..لمن يُحب الغوص .. وبالأسفل مجموعة منوّعة من الاقتباسات.


قراءة ممتعة ..




































السبت، 19 أغسطس 2017

في انتظار البرابرة ..يُقضى على الشعب قبل أن يراهم ..!



البرابرة ..الخطر الداهم الذي يُحدق بالامبراطورية .. 

الخطر ..الذي استدعى من الدولة استنفار قواتها ورجالات مكتبها الخاص للنفير إلى البلدة الحدودية المحاذية لأولئك الوحوش المرتبصين بأمن وثروات البلاد ..



البلدة أصبحت بالتالي تحت تصرف ما يُشبه الحكم العسكري .."بمقدراتها" وبسكانها ..
قاضي البلدة ..قضى بها زهاء ثلاثين عاماً ..سمع من أسلافه عن البرابرة لكنه لم يرَ شرّهم قبل ذلك ..

يقع في غرام إحدى البربريات الأسيرات ..ثم يبدو له أن يذهب بها إلى قومها ..وتنقلب بعدها الدوائر عليه

هو يرى أن بلدته قد وقعت ضحية بروباغندا الدولة وجيشها ..ضحية يتم استغلالها بفزّاعة البرابرة ..

استغرق الكاتب طويلاً في تفاصيل الأفكار التي تراود القاضي حول الجنس والنساء ..وقد يرى القارئ العابر أنه ابتذل كثيراً أو خرج عن النص ..

لكن ما أراه أنه يحاول أن يُصوّر أن الحياة الهانئة بالأفكار البسيطة السطحية جداً أحياناً ..والبعيدة عن الشعارات الرنّانة التي تُطلَق لبقاء الحاكم، لا للقضايا العُظمى الحقيقية ..والأخطار الداهمة الفعليّة، هي أهم حقاً من جهاد الدولة، حينما يكون المقصود الحقيقي من ورائه هو الشعب ..بمقدراته ..وباستسلامه لحاكمه ..الذي يرفع راية حمايته زوراً وبهتانا..

القاضي يرى فعلاً أن مشكلة وزنه الذي خسره في السجن ..وفي حياة الذل التي آل إليها ..وهمومه الجنسية ..أهم بكثير من تُرهات الدولة التي تحرق في سبيلها شبابها..وشعبها.
الجيش يُطارد أهدافاً وهمية ..يتيه في الصحاري ..ويهيم على وجهه في تتبع أُناس أبرياء ..رُحّل ..ويتساقط الجنود في هذه المهمة الشاقة بوعورة دروبها لا أكثر ..ويُنهك الشعب خوفاً ..ويترك منازله ومساكنه مع كل إشاعةٍ أو صيحة ..

ينتهي المطاف بمن بقي من الجنود فارّاً من هول المخاسر ..التي تكفّلت بها الطبيعة ..بسبب استبداد امبراطوريتهم بهم ..ناهبين ما يمكن نهبه من تلك البلدة سيئة الحظ ..

وهكذا ..يظل البرابرة شمّاعة مهيّئة في كل مرحلة من مراحل فتور الدولة ..وضيق شعبها بها، أو تململه من طول عمر ظلمها، لأن تكون الأداة الأمثل لتذكير الناس أن حامي حماهم يقظ لكل عدو متربص بهم ..تعلم الدولة خطره على مصائرهم ..من حيث لا يعلمون ..! 

البدائع والطرائف تحفة جبران خليل جبران



كم ترك الأديب الكبير نفسه على سجيّتها في هذا الكتاب ..الذي جمع فيه ألواناً متعددةً من الأدب ما بين المقالات، الخواطر، الشعر، الرسم حتى المسرحية والقصة القصيرة ..
وكأني به قد خصص ركناً في خلوته التي اقتطعها لقلمه ..ووضع فيها محبرته وأوراقه ..
فجعل من هذه الزاوية وذاك المحراب خلوةً للخلوة ..وصفوةً للصفوة ..يتلقى فيه وحي قلمه ..ويصطاد من خاطره في كشكوله ما تفيض به روحه ..فخرج بهذه البديعة ..

أودع فيها من السياسة والأدب ..وما أهمّه من أمر وطنه لبنان ..وحاله الذي يتلاعب به الساسة -لا يدري رحمه الله أن الكارثة ستمتد بعده إلى وقتنا هذا- فتجلى قهره في مقال: "لكم لبنانكم ولي لبناني" فخرج في أروع ما يكون من تعبير للعربي عن حاجته لوطنه ..وضيقه بأفعال الساسة .. 

وضع فواصله بين المواضيع المنوّعة من رسوماته بريشته لشخصيات تاريخية كالمتنبي والخنساء وابن خلدون وغيرهم ..




قبل هذا الكتاب بفترة بسيطة ..كنتُ قد تعرضت لقصيدة ابن سينا في النفس ..وعلى إثرها قرأت كتاب عباس العقاد عنه "الشيخ الرئيس" والتي لم يفت جبران أن يتعرض إليها ..بكامل إعجابه واعتناقه لها بمعانيها العميقة ..
لم يُخالف الدارسين في الثناء على عمق ابن سينا غير المسبوق ..بل وربما غير المتبوع ..فقد بلغ خفايا الروح عن طريق المادة ..
يقول جبران: 
"وليس من الغرائب صدور هذه القصيدة عن وجدان ابن سينا وهو نابغة زمانه، ولكن من الغرائب أن تكون مظهراً لرجل صرف عمره مستقصياً أسرار الأجسام ومزايا الهيولي. فكأني به وقد بلغ خفايا الروح عن طريق المادة وأدرك مكنونات المعقولات بواسطة المرئيات، فجاءت قصيدته هذه برهاناً نيّراً على أن العلم هو حياة العقل يتدرج بصاحبه من الاختبارات العملية إلى النظريات العقلية، إلى الشعور الروحي، إلى الله" 

ثم راح يُقارن ما أجمل ابن سينا في قصيدته، مع ما تفرّق في آراء الفلاسفة والمفكرين من بعده من أمثال شكسبير، تشلي، غوته، برانن، فوضع ابن سينا في قصيدة واحدة ما تقطع على أفكار في أزمنة مختلفة. 




وكان مما عرّج إليه أيضاً في كتابه، رأيه في اللهجات العاميّة ..وهل يجب أن يهجرها الناس للفصحى ..فتحدث بالأمثلة حول أنه لا يرى الضرورة التاريخية لذلك، إذا أن أدباء أبدعوا بالإيطالية الحديثة التي كانت تُعتبر عاميّة بالنسبة إلى اللاتينية المنقرضة ..
تحدث عن أن العاميّة تُهذب نفسها ..وتتخلص من الغث وتضع السمين وقد يُوجد أدب حديث بها دون خجل من ذلك ..
نظريته في وقته كانت له ما يؤيدها من قرائن وشواهد ..لكنه للأسف لم يُدرك زماننا الذي أصبحت فيه العامية وما تُستخدم له من فن أو أدب تتربع على عرش الابتذال والنحدار .. 
ميا ليته يعلم ..أنها -العاميّة- حقاً تحوّرت .. وتهذبت .. فخرجنا بمصطلحات وإبداعات فنية على طريقة .. "أديك في السقف تبحر"! و "أديك في الحارة سيجارة"! 
إي والله ..سقطت ذراعنا ..وما عدنا نقوى على التقاطها! 



من جماليات ما تطرّق إليه هو مسرحية إرم ذات العماد ..التي غاص فيها بين الشواهد المادية ..والقوى الإيمانية التي تصل بالمرء إلى كنوز الروح إن هو أيقن بها حق اليقين ..




ختم كتابه بمتنوعات متعددة من شعره ..الذي اعتمد فيه على تنوع القافية في كل بيتين أو ثلاثة بطريقة جمالية في انتقالية اللحن ..وهذه إحداها .. 





الكتاب جميل ..ويمكن قراءته بشكل متقطع إذ لا روابط تجمع موضوعاته ..
قراءة ممتعة .. 

الأحد، 13 أغسطس 2017

عين على الباهي ..عروة الزمان




عروة الزمان الباهي ..محمد فال أباه الذي عُرف بالباهي ..

سمّاه منيف زوربا العربي .. وقد أجاد التشبيه حقاً إلى حد ما .. 

في الحقيقة ..لم ينتهِ إليّ ..أن رجلاً كتب عن رجلٍ عاصره بهذه الحماسة ..وبتلك القوة والإعجاب الذي لا يُقارن! 

تحدث عبد الرحمن منيف بإسهاب عن نضال الباهي ..منشأه في شنقيط وتاريخه ..

مغامراته ..انتهاؤه في باريس ..صراعه بالفعل وبالكلمة ضد الاحتلال الفرنسي للجزائر ..وتحشيد الرأي العام الفرنسي لدعم التوجهات التحررية للشعب الجزائري العظيم ..

ما توقفتُ عنده كثيراً وأصابني بالكآبة الحقيقية ..هو عندما عرّج منيف عمّا حدث للباهي من صدمة ..حينما بدأ صراع الثوار الجزائريون مع بعضهم البعض ..حتى قبل أن توضع الكعكعة على الطاولة ..! 

بدأ حاملوا السلاح يدعون الفضل لهم وحدهم وهم الأحق بالإرث ..وفي مواجهتهم أرباب الكلمة والرأي والصراع السياسي ..ثم احتجّ الأسرى والمعتقلون ومناضلوا السجون ..ليتبعهم من ناضل لإخراجهم ..ليكون صراعهم دمويّاً ..وليكتئب الباهي ويعود أدراجه إلى باريس ..التي تُحبب إلى قلبه مع الوقت ..ويحاول أن يزرع شيئاً من التهدئة من خلال مقالاته التي كان يرتقبها الجميع

المُحبط ..أن العقل العربي مصاب بهذا الداء في كل وقت ومكان كما يبدو، وهذا ما عوّل عليه الاحتلال الإسرائيلي حينما انسحب من قطعة الجبن الصغيرة جداً -غزة- ليترك للعقلية العربية دورها في أن تتكفل بخوض الصراع على هذا الفتات وتنسى الكعكعة الأكبر ..وتنسى القضية الأهم ..بل وتنحدر إلى صراع داخلي سقيم ما زالت آثاره تكوي في الشعب الفلسطيني حتى تاريخ كتابة هذه الكلمات ..! 

الباهي ..شخصية عميقة ..وعفوية ..
أرتبط مع تلك الشخصية بشكل رئيسي في خصلتين ..
الأولى أنه مولع بالشعر ..وليس بشاعر ..
والثانية ..أنه كثير التأجيل لمشاريع ينوي أن يقوم بها ..ومات ولم يفعل! 

Twitter Delicious Facebook Digg Stumbleupon Favorites More