كم ترك الأديب الكبير نفسه على سجيّتها في هذا الكتاب ..الذي جمع فيه ألواناً متعددةً من الأدب ما بين المقالات، الخواطر، الشعر، الرسم حتى المسرحية والقصة القصيرة ..
وكأني به قد خصص ركناً في خلوته التي اقتطعها لقلمه ..ووضع فيها محبرته وأوراقه ..
فجعل من هذه الزاوية وذاك المحراب خلوةً للخلوة ..وصفوةً للصفوة ..يتلقى فيه وحي قلمه ..ويصطاد من خاطره في كشكوله ما تفيض به روحه ..فخرج بهذه البديعة ..
أودع فيها من السياسة والأدب ..وما أهمّه من أمر وطنه لبنان ..وحاله الذي يتلاعب به الساسة -لا يدري رحمه الله أن الكارثة ستمتد بعده إلى وقتنا هذا- فتجلى قهره في مقال: "لكم لبنانكم ولي لبناني" فخرج في أروع ما يكون من تعبير للعربي عن حاجته لوطنه ..وضيقه بأفعال الساسة ..
وضع فواصله بين المواضيع المنوّعة من رسوماته بريشته لشخصيات تاريخية كالمتنبي والخنساء وابن خلدون وغيرهم ..
قبل هذا الكتاب بفترة بسيطة ..كنتُ قد تعرضت لقصيدة ابن سينا في النفس ..وعلى إثرها قرأت كتاب عباس العقاد عنه "الشيخ الرئيس" والتي لم يفت جبران أن يتعرض إليها ..بكامل إعجابه واعتناقه لها بمعانيها العميقة ..
لم يُخالف الدارسين في الثناء على عمق ابن سينا غير المسبوق ..بل وربما غير المتبوع ..فقد بلغ خفايا الروح عن طريق المادة ..
يقول جبران:
"وليس من الغرائب صدور هذه القصيدة عن وجدان ابن سينا وهو نابغة زمانه، ولكن من الغرائب أن تكون مظهراً لرجل صرف عمره مستقصياً أسرار الأجسام ومزايا الهيولي. فكأني به وقد بلغ خفايا الروح عن طريق المادة وأدرك مكنونات المعقولات بواسطة المرئيات، فجاءت قصيدته هذه برهاناً نيّراً على أن العلم هو حياة العقل يتدرج بصاحبه من الاختبارات العملية إلى النظريات العقلية، إلى الشعور الروحي، إلى الله"
ثم راح يُقارن ما أجمل ابن سينا في قصيدته، مع ما تفرّق في آراء الفلاسفة والمفكرين من بعده من أمثال شكسبير، تشلي، غوته، برانن، فوضع ابن سينا في قصيدة واحدة ما تقطع على أفكار في أزمنة مختلفة.
وكان مما عرّج إليه أيضاً في كتابه، رأيه في اللهجات العاميّة ..وهل يجب أن يهجرها الناس للفصحى ..فتحدث بالأمثلة حول أنه لا يرى الضرورة التاريخية لذلك، إذا أن أدباء أبدعوا بالإيطالية الحديثة التي كانت تُعتبر عاميّة بالنسبة إلى اللاتينية المنقرضة ..
تحدث عن أن العاميّة تُهذب نفسها ..وتتخلص من الغث وتضع السمين وقد يُوجد أدب حديث بها دون خجل من ذلك ..
نظريته في وقته كانت له ما يؤيدها من قرائن وشواهد ..لكنه للأسف لم يُدرك زماننا الذي أصبحت فيه العامية وما تُستخدم له من فن أو أدب تتربع على عرش الابتذال والنحدار ..
ميا ليته يعلم ..أنها -العاميّة- حقاً تحوّرت .. وتهذبت .. فخرجنا بمصطلحات وإبداعات فنية على طريقة .. "أديك في السقف تبحر"! و "أديك في الحارة سيجارة"!
إي والله ..سقطت ذراعنا ..وما عدنا نقوى على التقاطها!
من جماليات ما تطرّق إليه هو مسرحية إرم ذات العماد ..التي غاص فيها بين الشواهد المادية ..والقوى الإيمانية التي تصل بالمرء إلى كنوز الروح إن هو أيقن بها حق اليقين ..
ختم كتابه بمتنوعات متعددة من شعره ..الذي اعتمد فيه على تنوع القافية في كل بيتين أو ثلاثة بطريقة جمالية في انتقالية اللحن ..وهذه إحداها ..
الكتاب جميل ..ويمكن قراءته بشكل متقطع إذ لا روابط تجمع موضوعاته ..
قراءة ممتعة ..
0 التعليقات:
إرسال تعليق