تعديل

الاثنين، 6 أغسطس 2018

عزفٌ على أنغام الوجع ..أولاد الغيتو ..

لا أدري ..هل من الممكن أن يجد المرء في اللغة بعض الاستعارات التي تُعبر عمّا قرأ في هذه الاختزالات الشديدة التي نُسمّيها مراجعات ..؟! 

لستُ خبيراً فيما أنتج الأدب الفلسطيني، وأدب النكبة، لكن رغم ذلك لا أتوقع أن أحدهم شهق بمثل ما كتب آدم دنّون فيما لا يحتويه تصنيف أدبي..سوى ما اجتهد به إلياس خوري وأطلق على تلك السردية "أولاد الغيتو" أو "اسمي آدم". 




ربما يمكن الحديث عنه أنه النص الذي قتل صاحبه، فما لبث أن غادرته الروح ..بعد أن أنهاه بقليل ..!

كيف يُمكن للذاكرة أن تكون بمثل هذه القسوة ..؟! 

كيف تستيقظ ذاكرة الطفولة في كهل ..فتُشقيه في آخر أيامه بمرارة الماضي ..؟!

آدم دنّون، نسبةً "لأبيه" الشهيد حسن دنّون أحد أبطال النكبة .. شخصية فريدة خسرها الأدب عامةً ..والأدب الفلسطيني خاصة ..

تتفتح أمامه ورقات الماضي .. بدءاً بقصة آبائه، الذين يكتشف علاقته بهم واحداً تلو الآخر، ليصل إلى قصته الحقيقية .. رضيع مُلقى على صدر أمه التي استُشهدت في أحداث النكبة، ثم ماضي الغيتو الذي لبث فيه فقط السبع سنوات الأولى من عمره ..ليكتشف أن الذاكرة ليست بتلك الرحمة التي يُحدث عنها البعض حينما يتكلمون عن تفريغ الآلام بفعل الكتابة ..

 حينما بدأت في قراءة ما كتب ..أدركتُ أنني أمام تجربة فريدة .. دسمة أدبياً ..وموجعة تاريخياً .. 

هربتُ منها مراراً إلى أكثر من كتاب ..لأعود إليها في كل مرة دون وعي ..

لستُ أكتب هنا لأصف بالتفصيل ما قرأت، فكما ذكرت ..ربما يقع في دائرة المحرّم أدبياً أن تُختزل مثل هذه التجربة، إنما أردت أن أُخبر من يمر من هنا أن هنالك ملحمة في سطور ..في حياة شخص ربما كان مغموراً في الوسط الأدبي ..العربي، لكنه امتلك لغةً جزلة ..وقصةً تهزّ الوجدان ..خصوصاً إن كنت من أهل الحكاية وخاصتها .. 

ما أوجع القلب، بعد أن أنهيت حكايته، أنني تأملتُ في الحالة الفلسطينية، فوجدت الغيتو (البقعة المسيّجة التي تجمع الناس في بقعة صغيرة، في ظروف حياتية صعبة ومحاطة بطوق عسكري، تجري عليهم فيها أحكامه بلا رحمة) وجدته كأنه بات ملتصقاً بالهوية الفلسطينية ..بعدما كان من حكايات اليهود وقصة غيتو وارسو .. 

لا أدري ما العلاقة بيننا وبين الغمّة ..وكيف لنا أن نُصبح مبدعين بهذا الحد في اكتشاف غيتوهات .. تلو الغيتوهات ..بأيديينا قبل يد الأعداء .. كيف أصبحت الحزبية والانقسام إحدى الغيتوهات التي لا فكاك منها ..فألقت بنا في مآزق وليدة مآزق حتى ضاعت من قوامسينا مفردة: سقف الأمل، بل سقف المأزق الأخف ضرراً ..!  

ـــــــــــــــــــ

كيف استيقظت ذاكرة طفل في رجل أحاطت به الأنوار في مدينة الأحلام ..نيويورك ..! 

أكثر ما هزّ الروح بعنف الرهبة والرعشة .. بألم الذاكرة التي لاحقت آدم في مدينة الأحلام هو وصفه الدقيق لحالة الشعب المنكوب ..الذي أصبح ضحيةً لضحية .. حينما تحدث عن أدب الصمت ..! 

الصمت الذي أطبق على كل شيء ..بعد أن حلّت خريطة بدلاً من خريطة .. واستُبدل شعب ..بشعب آخر أسقط كل عذاباته التاريخية على من لم يُشارك في تعذيبه ..

تحدث عن حالة الصمت ..التي حلّت على شبّان غيتو اللد ..وهم يدفنون موتى المدينة التي ماتت قبل أهلها ..في مقابر جماعية ..

قتلني وصفه للموتى وغياب الملامح ..وما أجهز على ما تبقى من الجلَد، حينما ختم روايته بشهادة مراد العلمي ..أحد شُبان غيتو اللد، الذي بقي حبيس الصمت سنوات طويلة حتى بلغ السبعين .. وفي لحظة واحدة انفجر أمامه الصمت إلى كلمات مختنقة لتصف يوم المحرقة .. حينما سأم جنود اليهود من عمليات الدفن .. وكثرة الجثث، فأمروا الشبان بتجميع ما تبقى من الجثث في صعيد واحد لحرقها ..! 

يقول العلمي محدثاً دنّون: "إنها اللحظة التي لا يريد أن يتذكرها ..ولا يريد أن يرويها لأحد" 

لن أحاول اختزال المشهد .. وأترك تعليق آدم دنّون عليه كما أورده في المقتطف التالي، وهنا أتوقف .. 






الأحد، 11 فبراير 2018

هل آن أوان أن نوافق على صفقة القرن "الخيانية" ..؟!

يميلُ الناس عادة إلى سماع الآراء أو قراءة المقالات التي تُدغدغ أسماعهم بما يُحبّون سماعه، كالطفل الذي يُصر أن تُروى له حكايته المفضلة قبل النوم لينعم بأحلام لذيذة .. 

أما حينما يُروى الواقع ..في ظل التاريخ واستقراء القادم فإنهم يصمّون آذانهم ..إن لم يجدوا ما يصِموا به أصحاب تلك الآراء الجريئة ..
والتساؤل، ما فائدة الكتابة والآراء إن لم تكن من النوع الثاني؟! 


بناءً على تاريخنا القريب الأغبر، وتجاربنا المتعددة في الحرب والسلام، وبناءً على الأوضاع الحالية الإقليمية والدولية وحتى المحلية التي بلغت مبلغاً لم تعرفه من قبل على المستويات المعيشية والسياسية والاقتصادية والإنسانية ..والآفاق التي تعاني من انسداد كامل وتلوث لا نهائي، لم تنفع معه كل عمليات القسطرة والبسترة ..
بناءً على كل ما سبق ..وعلى ما قيل ويُقال وما سوف يُقال ..يبرز تساؤل هزلي جدي في آن، بحجم حماقة الخيارات المتاحة، وهو: أليس من الأسلم أن ننتهي مبكراً من مسألة الموافقة على "صفقة القرن الخيانية"!

ابتدأ التحدي العربي الصلب حقيقةً على الأقل في المواقف المعلنة، للمشروع الصهيوني منذ ما قبل 48، حتى أن الرفض القاطع لأي تسوية كان هو سيد الموقف دائماً. في المقابل، فإن الموقف الواقعي على الأرض كان سيده الحقيقي من عمل في صمت، دون جعجعة، وخطط وأعد لكل مرحلة بما يُنسابها بدءاً من الإمكانات المادية ..وحتى الخطابات الإعلامية والسياسية. وبالتالي، كانت الصلابة العربية من ذلك النوع القابل للكسر والتطويع مع الزمن ..والانهيار أمام النفس الطويل وعض الأصابع -رحم الله عنترة- وخير دليل أن لاءات الخرطوم الثلاثة ..انقلبت إلى نعم، بل ظهرت حالياً مذاهب وتيارات وممالك تدور في فلك وإرادة من قيل لهم "لا" ولم تكتفِ فقط بالاعتراف بشرعيتهم!
ألم نتحسر على التقسيم ..؟! 
ألم تُصبح حدود 67 حلم بعيد المنال، والمبادرة العربية 2002م وثيقة نتمنى أن يُعمل بها رغم كمية الرفض التي جابهناها به؟!
تساؤلات لم تكن ليُسمح أن تُطرح لولا حجم الخسائر التاريخية، والتي لم تدع لنا مجالاً لأن نفكر بنفس الطريقة، التي لم تُسفر عن شيء منذ عقود .. أفلا يستدعي ذلك مراجعات لتغيير الأداء والأساليب؟! 

المؤسف أن العرب اعتادوا في هذا التاريخ الأجوف أن يكونوا في كل مراحلهم في الموقع الإعرابي للـ "مفعول به"، الذي ينتظر .. ولا يُنتظر أن يأتي منه سوى ردّات الفعل الهوجاء، التي لا تزيد في مخرجاتها النهائية عن التجديف في الهواء. والعجيب، أنهم اعتادوا كذلك أن يكونوا ضحية لنظرية "المؤامرة" التي ويا للعجب ..وللصدفة البحتة، أو ربما الحظ التعس ..دائماً ما تنطلي عليهم ولم تُخلف في ذلك موعداً ولو مرةً واحدة..! 
والسؤال ..لماذا لم يُفكر العرب يوماً في أن يُحاربوا بمثل الطريقة ..المؤامرة، أليس كل شيء مباحاً في الحب والحرب؟! 

لذلك، وحيث أن حاضرنا ليس بأفضل من تاريخنا القريب، بل ربما أسوأ بكثير على الأقل في موازين وحدة الصف واتفاق الكلمة التي عصفت بها الطائفية والتكفير فأودت بالبلد الواحد بل بالمذهب الواحد نفسه، وكذلك في موازين التفوق الحضاري والتقني والفارق الذي اتسع كثيراً عما كان عليه في الماضي، بالإضافة إلى بؤس لا يخفى في انحياز المواقف الإقليمية والدولية، وبؤس آخر أنهك قطب الصراع في غزة الذي تُرك يُنهش ويُطحن حتى وصل إلى مرحلة من الجاهزية للقبول بما لا يُقبل ..والموتى الأحياء يفعلون ذلك، أليس من الأفضل في ظل ذلك كله أن ندع التشنج قليلاً ونستبدله بشيء من الحكمة في تقدير الواقع والخيارات، على أن نضع أهدافنا بطريقة مماثلة لـ"بروتوكولات" من جرّعونا النكسة تلو النكبة ..وأهمها أن نحاول أن نكون أصحاب مال واقتصاد ..ونفوذ على الصعيد العالمي؟ 

ختاماً .. إذا كان خيارنا الرفض للصفقة/الصفعة ..يجب أن نكون بحجمه وحجم تبعاته .. لا أن نصل لمرحلة بعد سنوات ننظر إليه من بعيد كأحد القرارات الدولية التي هي سقف مطالبنا .. حين تكون الأيام قد هوت بنا لمزيد من حضيض ..ما له من قرار ..!

الأربعاء، 7 فبراير 2018

نصف مليون دقيقة في أستراليا ..حينما تتذوق الحروف


 


أؤمن تماماً أن للكتب مذاقات تتشابه في سلوكها مع الناس ..صعوداً وهبوطاً .. حتى أن منها ما هو خفيف على النفس يُحلّق مع الروح وبها .. ومنها ما هو ثقيل لا يأتي ذكره إلا واستحضرتَ ثقل ظلّه! 

هذا الكتاب من الكتب التي لا تتركها لبعض شأنك إلا وأنت تتلهف للعودة إليها ..

هو من أدب الرحلات الذي دوّن فيه صلاح طنطاوي تجربته في الهجرة إلى أستراليا .. وكيف استقبل الحياة واستقبلته فيها ..فابتدأت معه من عكس التوقعات الشائعة أن جنةً كانت في انتظاره! 

شدتني شخيصته التي لا تعرف الاستقرار ولا تميل إليه أو تُحبذه ..وربما شاركني وشاركته في "سرعة الملل" والبحث عن جديد .. لكنه ذهب في ذلك مذهباً لم أسمع قبلاً بمثله .. فهو لا يكاد يصل للنجاح في وظيفة ولشيء من الثبات وربما حتى المتعة .. حتى يتركها ويستقيل باحثاً عن غيرها ..!

تأرجح وتقلّب في دقائقه النصف مليون .. من عامل في مخازن ..إلى أفندي في مصلحة بريد ..ثم  رسام في شركة تُقدم خدماتها ممثلَة في رسومات هندسية لشركات أخرى .. وبين تلكم الفرص التي أصابها العديد من الحكايات والمحاولات التي ارتدت عليه سهامه تنبئه بفشل المحاولة .. 

 
لكن ورغم أنه قضى وقتاً ممتعاً في الأخيرة .. إلا أن زيارة  "شيطان الهدم" كما كان يُطلق عليه، كان لها رأيٌ آخر ..يدفعه في اتجاه تقديم استقالته من هذا العمل الجميل والمريح ..!! وله في هذه الطريقة نظرية بديعة أذكرها لاحقاً في هذه المراجعة ..

بالتوازي مع بداياته في أستراليا.. خامرته الفكرة العظيمة بإنشاء فرقة "أضواء القاهرة" للفن المسرحي الذي حُرم منه في زمانه 50 ألف مهاجر عربي إلى أستراليا ..وهي من اللمسات التي أضفاها لمجتمع من المهاجرين العرب استخفهم الحنين دون أن يجدوا لهذا الظمأ من راوٍ .. فكانت هذه الحالة أحد أهم أسباب نجاحه الباهر ..

الجميل .. أنني ومن وصفه لتفاصيل تجربته مع المسرح وكيفية صناعة الفكرة من جذورها، من تكوين الفرقة وحتى النصوص والبروفات والجدية في التنفيذ، شعرتُ أنها الحياة التي تنتمي له وينتمي لها .. وتُخرج طاقاته في أبهى صورها .. 
أفرد صفحات وصف فيها شيئاً من أستراليا في وقت هجرته إليها عام 1967، وحكى في سياق ذلك قصة نشأتها .. ولشد ما كان تعجبي حينما ذكر أن هذه الدولة التي باتت اليوم مطمح ومطمع الملايين من الراغبين في الهجرة من شتى بقاع العالم، نشأت على أيدي "المجرمين" المنفيين من بريطانيا .. والتي كانت مملكة عُظمى في ذلك الوقت، استغلت بُعد القارة عنها والمسافة الرهيبة التي تفصلها عنها، للتخلص من الآلاف منهم .. إما بموتهم في الطريق التي كانوا يُلاقون فيها أشد العذابات .. أو أن تنتهي بهم الحال في تلك الأرض "البور" فتتقاذفهم الأقدار..!

لكن .. يحدث أن تتفوق الإرادة على القدر ..تلك الأرض استفزت فيهم روح البقاء وجوهر الإنسانية الذي أضاعوه في بقاعٍ أخرى، فزرعوها وعمّروها .. إلى أن جاء اليوم الذي قالوا فيه لبريطانيا "كفى" ولم يستقبل مجتمعهم المدني مزيداً من المجرمين .. ممن قد يُفسد عليهم مدنيتهم، فاتجهت المملكة في 1767م لأن تبحث عن منفى جديد .. الذي لم يكن سوى أمريكا ..! وكانت مناسبة سردية طنطاوي أنه كان فيها في 1967 في الوقت الذي كان يحتفل فيه الأستراليون بمرور مائتي عام على توقف تصدير المجرمين إلى أراضيهم!

غريب حقاً أن يبني المجرمون حضارات عُظمى .. ومدنيات يشهد لها القاصي والداني ويفشل فيها أقوام يدعون أنهم خير من تسعى بهم قدمُ ..رغم أنهم -وفي ازدواجية عجيبة- لا يُفوّتون فرصة ترك أوطانهم المحطمة ليُهاجروا إلى تلك البلاد التي بناها المجرمون ليتمتعوا بحقوقهم الإنسانية التي أُهدرت على تراب الوطن. أليس أمراً يدفع للجنون .. على الأقل على الصعيد الفكري! 

بالعودة لطنطاوي ..فقد حقق نجاحاً مميزاً في مسرحه ..الذي بدأه في كنيسة لعدم امتلاكه ثمن استئجار واحداً ..فرحبت به كنيسة سيدة لبنان التي أدى فيها بروفاته مع فرقته المتواضعة والتي كونها بشيء من الصعوبة ومن أفراد من المهاجرين ليس لهم خبرة في التمثيل .. وكان أن عرض مسرحيته الأولى "سيد درويش" بعد ذلك في كنيسة جميع الأديان بعد أن أكل الحزن فؤاد الأب بوليس خوري بفقدانه أعزاء من كنيسة سيدة لبنان .. ثم جاءت مسرحيته الثانية "روض الفرج" بعد النجاح الباهر للأولى، وهي عن قصة لنجيب محفوظ .. وكتب هو -أي صلاح طنطاوي- نصها المسرحي .. وحينما حان وقت العرض استأجر مسرحاً .. بعد أن أصبح لفرقته صيت جيد يُشجع على ذلك .. وبعد أن امتلك ابتداءً ما يكفي لهذه المهمة من مال .. 


كان قد استقال من عمله السابق كما أسلفت، واستغرق ثلاثة أسابيع ليجد عملاً جديداً كمأمور للضرائب ..بعد أن استحكم به اليأس وظن أنه يدفع ثمن جنونه .. ورغم انسجامه في العمل في الضرائب ورضاه بالعائد ..ورغم أن فرقته الفنية باتت ذات صيت رائع .. إلا أن نظريته العجيبة بأنه: 

"في الوقت الذي تبلغ فيه النجاح والاستقرار ..ليس عليك سوى انتظار الموت"

كانت إحدى خصائصه الغريبة والمميّزة في آن .. وكأني بحكمته في الحياة قد استقاها من الشطر الثاني من بيت خالد للمعتمد بن عبّاد:   

 فالعقل عندي أن تزولَ عقولُ!

قرر أن يترك كل ذلك ويعود إلى مصر بعد حوار مهم مع شيطانه المتخصص في الهدم ..ليبدأ من الصفر .. فهو يرى أنه في كل مرة يبتدئ فيها المرء من الصفر يفتتح شباباً جديداً وطاقةً جديدة يمكنها تأجيل فكرة الموت .. 

حقاً ..يا لها من روح رائعة لا تعترف بالروتين ولا بالحياة الخالية من الإثارة والجديد .. ولولا الزمان والمكان الذي خطّته الأقدار لكنتُ منها .. وكانت مني ..!

Twitter Delicious Facebook Digg Stumbleupon Favorites More