تعديل

الأربعاء، 7 فبراير 2018

نصف مليون دقيقة في أستراليا ..حينما تتذوق الحروف


 


أؤمن تماماً أن للكتب مذاقات تتشابه في سلوكها مع الناس ..صعوداً وهبوطاً .. حتى أن منها ما هو خفيف على النفس يُحلّق مع الروح وبها .. ومنها ما هو ثقيل لا يأتي ذكره إلا واستحضرتَ ثقل ظلّه! 

هذا الكتاب من الكتب التي لا تتركها لبعض شأنك إلا وأنت تتلهف للعودة إليها ..

هو من أدب الرحلات الذي دوّن فيه صلاح طنطاوي تجربته في الهجرة إلى أستراليا .. وكيف استقبل الحياة واستقبلته فيها ..فابتدأت معه من عكس التوقعات الشائعة أن جنةً كانت في انتظاره! 

شدتني شخيصته التي لا تعرف الاستقرار ولا تميل إليه أو تُحبذه ..وربما شاركني وشاركته في "سرعة الملل" والبحث عن جديد .. لكنه ذهب في ذلك مذهباً لم أسمع قبلاً بمثله .. فهو لا يكاد يصل للنجاح في وظيفة ولشيء من الثبات وربما حتى المتعة .. حتى يتركها ويستقيل باحثاً عن غيرها ..!

تأرجح وتقلّب في دقائقه النصف مليون .. من عامل في مخازن ..إلى أفندي في مصلحة بريد ..ثم  رسام في شركة تُقدم خدماتها ممثلَة في رسومات هندسية لشركات أخرى .. وبين تلكم الفرص التي أصابها العديد من الحكايات والمحاولات التي ارتدت عليه سهامه تنبئه بفشل المحاولة .. 

 
لكن ورغم أنه قضى وقتاً ممتعاً في الأخيرة .. إلا أن زيارة  "شيطان الهدم" كما كان يُطلق عليه، كان لها رأيٌ آخر ..يدفعه في اتجاه تقديم استقالته من هذا العمل الجميل والمريح ..!! وله في هذه الطريقة نظرية بديعة أذكرها لاحقاً في هذه المراجعة ..

بالتوازي مع بداياته في أستراليا.. خامرته الفكرة العظيمة بإنشاء فرقة "أضواء القاهرة" للفن المسرحي الذي حُرم منه في زمانه 50 ألف مهاجر عربي إلى أستراليا ..وهي من اللمسات التي أضفاها لمجتمع من المهاجرين العرب استخفهم الحنين دون أن يجدوا لهذا الظمأ من راوٍ .. فكانت هذه الحالة أحد أهم أسباب نجاحه الباهر ..

الجميل .. أنني ومن وصفه لتفاصيل تجربته مع المسرح وكيفية صناعة الفكرة من جذورها، من تكوين الفرقة وحتى النصوص والبروفات والجدية في التنفيذ، شعرتُ أنها الحياة التي تنتمي له وينتمي لها .. وتُخرج طاقاته في أبهى صورها .. 
أفرد صفحات وصف فيها شيئاً من أستراليا في وقت هجرته إليها عام 1967، وحكى في سياق ذلك قصة نشأتها .. ولشد ما كان تعجبي حينما ذكر أن هذه الدولة التي باتت اليوم مطمح ومطمع الملايين من الراغبين في الهجرة من شتى بقاع العالم، نشأت على أيدي "المجرمين" المنفيين من بريطانيا .. والتي كانت مملكة عُظمى في ذلك الوقت، استغلت بُعد القارة عنها والمسافة الرهيبة التي تفصلها عنها، للتخلص من الآلاف منهم .. إما بموتهم في الطريق التي كانوا يُلاقون فيها أشد العذابات .. أو أن تنتهي بهم الحال في تلك الأرض "البور" فتتقاذفهم الأقدار..!

لكن .. يحدث أن تتفوق الإرادة على القدر ..تلك الأرض استفزت فيهم روح البقاء وجوهر الإنسانية الذي أضاعوه في بقاعٍ أخرى، فزرعوها وعمّروها .. إلى أن جاء اليوم الذي قالوا فيه لبريطانيا "كفى" ولم يستقبل مجتمعهم المدني مزيداً من المجرمين .. ممن قد يُفسد عليهم مدنيتهم، فاتجهت المملكة في 1767م لأن تبحث عن منفى جديد .. الذي لم يكن سوى أمريكا ..! وكانت مناسبة سردية طنطاوي أنه كان فيها في 1967 في الوقت الذي كان يحتفل فيه الأستراليون بمرور مائتي عام على توقف تصدير المجرمين إلى أراضيهم!

غريب حقاً أن يبني المجرمون حضارات عُظمى .. ومدنيات يشهد لها القاصي والداني ويفشل فيها أقوام يدعون أنهم خير من تسعى بهم قدمُ ..رغم أنهم -وفي ازدواجية عجيبة- لا يُفوّتون فرصة ترك أوطانهم المحطمة ليُهاجروا إلى تلك البلاد التي بناها المجرمون ليتمتعوا بحقوقهم الإنسانية التي أُهدرت على تراب الوطن. أليس أمراً يدفع للجنون .. على الأقل على الصعيد الفكري! 

بالعودة لطنطاوي ..فقد حقق نجاحاً مميزاً في مسرحه ..الذي بدأه في كنيسة لعدم امتلاكه ثمن استئجار واحداً ..فرحبت به كنيسة سيدة لبنان التي أدى فيها بروفاته مع فرقته المتواضعة والتي كونها بشيء من الصعوبة ومن أفراد من المهاجرين ليس لهم خبرة في التمثيل .. وكان أن عرض مسرحيته الأولى "سيد درويش" بعد ذلك في كنيسة جميع الأديان بعد أن أكل الحزن فؤاد الأب بوليس خوري بفقدانه أعزاء من كنيسة سيدة لبنان .. ثم جاءت مسرحيته الثانية "روض الفرج" بعد النجاح الباهر للأولى، وهي عن قصة لنجيب محفوظ .. وكتب هو -أي صلاح طنطاوي- نصها المسرحي .. وحينما حان وقت العرض استأجر مسرحاً .. بعد أن أصبح لفرقته صيت جيد يُشجع على ذلك .. وبعد أن امتلك ابتداءً ما يكفي لهذه المهمة من مال .. 


كان قد استقال من عمله السابق كما أسلفت، واستغرق ثلاثة أسابيع ليجد عملاً جديداً كمأمور للضرائب ..بعد أن استحكم به اليأس وظن أنه يدفع ثمن جنونه .. ورغم انسجامه في العمل في الضرائب ورضاه بالعائد ..ورغم أن فرقته الفنية باتت ذات صيت رائع .. إلا أن نظريته العجيبة بأنه: 

"في الوقت الذي تبلغ فيه النجاح والاستقرار ..ليس عليك سوى انتظار الموت"

كانت إحدى خصائصه الغريبة والمميّزة في آن .. وكأني بحكمته في الحياة قد استقاها من الشطر الثاني من بيت خالد للمعتمد بن عبّاد:   

 فالعقل عندي أن تزولَ عقولُ!

قرر أن يترك كل ذلك ويعود إلى مصر بعد حوار مهم مع شيطانه المتخصص في الهدم ..ليبدأ من الصفر .. فهو يرى أنه في كل مرة يبتدئ فيها المرء من الصفر يفتتح شباباً جديداً وطاقةً جديدة يمكنها تأجيل فكرة الموت .. 

حقاً ..يا لها من روح رائعة لا تعترف بالروتين ولا بالحياة الخالية من الإثارة والجديد .. ولولا الزمان والمكان الذي خطّته الأقدار لكنتُ منها .. وكانت مني ..!

0 التعليقات:

إرسال تعليق

Twitter Delicious Facebook Digg Stumbleupon Favorites More