بعد ظهور المدنية وانتقال الإنسان من حالة التوحش، وحياة الجمع
والالتقاط، إلى تكوين المجتمعات والتجمعات والقرى، فالمدن، ثم دول وأنظمة حكم،
ظهرت الأفكار والقواعد التي تُنظّم وترسم أساليب الحكم، وتطورت منذ فجر المدنية
وحتى تاريخه.
ومن أبجديات الحكم بأبسط أشكاله المعروفة في عصرنا الحالي، والتي
درسها وتعلمها كل شخص مرّ بالمراحل الدراسية الأساسية، هي وجود شعب، ووجود بقعة أرض
يعيش عليها هذا الشعب. ثم وجود هيئات وسلطات حكم تتمثل في شكل تنفيذي، وآخر
برلماني، وثالث قضائي ..وربما أفردنا بالذكر الشكل الرئاسي لاعتبارات عربية.
ومن البديهيات أن تكون هذه الأشكال والهيئات الممثلة للحكم، مجتمعة مع
الشعب في نفس البقعة الجغرافية، ترعى شئونه وتنظم حياته، وتقوم على احتياجاته،
وتحفظ أوضاع البلاد الأمنية، والسياسية، وتنتشر قواتها الدفاعية المتمثلة في الجيش
على الحدود وفي القواعد والثكنات لتأمين البلاد من أي اعتداء خارجي.
في غزة، الأمور لا يمكن تصنيفها أو وضعها تحت مجهر الفحص والدراسة
لمعرفة كينونة وشكل الحكم، ووضعه في تعريف يجمع خصائصه فيُصبح بذلك أنموذج قابل
للنقل وإطلاع الآخرين على حقيقته.
ففي هذه البقعة الجغرافية ذات المساحة الضيقة والمحدودة جداً –حوالي 365
كم- تحكم حركة حماس القطاع منذ عام 2007 بعد أن سيطرت بقوة السلاح على المقرات
الأمنية للسلطة، حيث اتهمتها الأولى بعرقلة العملية الديموقراطية التي أفرزت فوزها
عام 2006.
الشكل المفرز من الحكم بعد هذا الانقلاب هو حالة ليست لها أي سابقة
تاريخية، على حد علمي. فالسلطة التي انحصر نفوذها الحقيقي على الضفة الغربية،
استمرت قائمة على كثير من نواحي الحياة في قطاع غزة –البقعة التي فقدت سيطرتها
الأمنية والعسكرية عليها- أبرزها رواتب موظفيها، مصاريف أساسية في الكهرباء متعلقة
بضريبة الوقود الخاص بالمحطة وثمن الكهرباء المزودة من الجانب الإسرائيلي والمصري،
والجزء الأهم والأكبر من مصاريف وزارة الصحة –العلاج في الخارج- ورواتب ذوي الأسرى
والشهداء والجرحى، وخلافه من التغطيات المالية التي استمرت في توفير نفقاتها.
في المقابل، بدأت حركة حماس في عمليات استيعاب موظفين جدد، لتغطية
العجز الذي حدث بالتزام الغالبية من موظفي السلطة لبيوتهم بناءً على تعليمات من
السلطة، وأيضاً استمراراً للاحتياجات الطبيعية للعمل الحكومي والوظيفي. وبالتالي
بدأ يتنامى جزء من النفقات تتحمل أعباؤه حركة حماس، كحركة تدير القطاع أو لنقل
"حزب حاكم" لقطاع غزة.
هذه الحالة من الانقسام السياسي، والجغرافي أساساً، خلقت أمام الفرقاء
خيارين لا ثالث لهما مع مرور الوقت وتعمق الفجوة، هو إما لم الشمل على أسس واضحة،
وإعادة لُحمة سياسية و"إدارية" لطرفي الوطن، أو فراق لا لقاء بعده، لا
بد أن يقع مهما طال الوقت. ولا يخفى على أي متابع ما حدث من محاولة لم شمل في 2014
..انتهت بالفشل الذريع، والسبب الرئيس من وجهة نظري هو ضبابية الأسس التي تم بناءً
عليها الاتفاق، إضافة لأن الاتفاق كان بمثابة تخلص من كابوس إدارة قطاع غزة من قبل
حركة حماس المحاصرة مالياً، خصوصاً بعد سقوط مرسي، وتقطع أوتار العلاقات مع إيران.
في وقت سابق لهذا الاتفاق، كانت الحالة في غزة هي حالة وجود وزراء
للوزارات، استمدوا شرعيتهم من حالة التعنت والتأرجح القائمة بين الطرفين بين
اعتراف أو نزع الشرعية عن امتداد حكومة هنية، التي استمرت في غزة بعد أحداث 2007.
أما بعد تشكيل حكومة الوفاق والاتفاق بين الطرفين على شرعيتها، ثم حالة الفراغ
التي حدثت في غزة من الوزراء، دون ملئ لهذا الفراغ من قبل حكومة الوفاق، نتيجة
سجالات بين الطرفين على قضايا مختلفة، أهمها رواتب موظفي غزة الذين تم تعيينهم
إبان حكم حكومة هنية –المقالة 2007-2014-، كل ذلك انتهى بتثبيت هذا الفراغ في غزة،
خصوصاً بعد حرب تموز 2014، وفشل كل المحاولات التي تلتها لتسلم حكومة الوفاق زمام
الأمور في غزة.
كان متوقعاً مع الوقت عودة زمام الشكل الرسمي للحكم –وجود وزراء-
لحركة حماس في غزة، وازدياد عمق الفجوة بين رام الله وغزة. لكن الشكل الذي خرجت به
حركة حماس كان عبارة عن لجنة إدارية، يكون أعضاؤها بمثابة وزراء على الوزارات
الرئيسة والمفصلية في القطاع. في المقابل حذرت رام الله من أن هذه الخطوة خطيرة
سيتبعها إجراءات صارمة من طرفهم بحق القطاع، لإجبار حماس على حل اللجنة الإدارية
وتسليم زمام الأمور في القطاع للسلطة الوطنية.
مرحلة الصراع القديم الجديد بين الفرقاء هذه المرة اتخذت منحى صعب
للغاية، لأن حصاده المباشر على رأس الشعب بتعميق الأزمات القائمة فعلاً في
احتياجاته اليومية. حيث بدأت رام الله برفع يدها عن الكثير من الالتزامات ..أبرزها
تقليص رواتب الموظفين التابعين لها منذ ما قبل 2007، تقليص النفقات الخاصة
بالكهرباء، وأخيراً وليس آخراً ..تقليص النفقات الخاصة بالمرضى ذوي الاحتياج
للعلاج خارج البلاد أو خارج غزة كأضعف الإيمان.
السؤال المطروح الآن ..أو الأسئلة ..
أولاً: نتفق أن الصراع اتخذ منحى يجوز تصنيفه "غير أخلاقي"
..وإن كان الهدف المعلن أخلاقي –توحيد شطري الوطن بأي ثمن- لكن الثمن باهظ، وصعب
تقبله.
ثانياً: استناداً على ما ذُكر أعلاه من الشكل الطبيعي للحكم، في أبسط
صوره ، يكون المصير الحادث حالياً أمر طبيعي على صعوبته، وهو أنه على الجهة التي
تبسط نفوذها على بقعة جغرافية، خاصة النفوذ الأمني، والآخر المتعلق بالدفاع عن
الحدود، من المنطقي جداً ..جداً ..أن تتكفل بحلّ مسألة باقي الاحتياجات الحياتية
للشعب الذي يقع في نفس البقعة الجغرافية ..التي تسيطر عليها، ومن الطبيعي جداً أن
لا يستمر المنافس في التوفية بأي التزامات لبقعة لا يملك عليها نفوذاً. وبالتي
النهاية المنطقية، هي إما الالتزام من قبل الحزب الحاكم للقطاع ببقية المناحي
الحياتية، أو تخلية ساحة "النفوذ" للجهة التي كانت تُكملها.
الآن ..هذا الرأي بالتأكيد لن يُعجب الكثيرين، والسبب من وجهة نظري هو
إيمانهم بالفكرة المتعلقة بإلزام المنافس أو المخالف بأنهم على حق مطلق وعليه
تأدية الواجب لهذا الحق. بمعنى آخر وانطلاقاً من هذا المنطق الأرسطوطاليسي:
-
المقاومة المسلحة واجب شرعي ووطني مقدس وهي حق مطلق لا يمكن إعادة
النظر فيه (مقدمة كبرى).
-
حركة حماس حركة مقاومة إسلامية مسلحة (مقدمة صغرى).
-
إذن حركة حماس حق مطلق.
ويترتب على ذلك بالتأكيد اعتبار الخصم، وإن كان خصماً فكرياً
وسياسياً، ملزَماً بالإذعان لاحتياجات ومتطلبات هذا الحق المطلق. لكن الشيء الذي
أغفله أرباب هذه الطريقة من الدفاع، أنه لا يوجد حق مطلق في هذه الحياة، فكل تيار
أو فكْر أو شخص يرى نفسه قد وُلد على الحق المبين، وأن على العالم اتباع طريقته
لينجو في الدنيا والآخرة. ويحضرني في هذا المقام كلمات طرقت آذاني أثناء مروري من
أمام مسجد، وفيه شيخ يُلقي درساً، كان يقول لحظتها: "اليهود على باطل، وعارفين
إنهم على باطل وإنهم حيروحوا النار، وعارفين إنه احنا على حق ..عشان
هيك ...كيت كيت كيت ..."
حقيقةً ..لا أستطيع أن أستوعب أن يعرف إنسان ويستقين أنه ذاهب إلى
النار نتيجة لخياره ..ثم يصرّ على خياره. ويحضرني في المقابل اعتراف لأحد الملحدين
–وهو مقتنع بإلحاده، وهو يقول: "لو كان عندي يقين 1% إنه في نار وجهنم، كان
زماني داعش، أنا أصلاً بخاف من الفار ..مش حأخاف من النار؟!"
وهذا حقيقةً عين المنطق، اتفقت أو اختلفت معه، ففكرة وقوع اليقين بعذاب
أليم، ليست سهلة، وبالتأكيد يترتب عليها اختلاف لتوجهات الإنسان وخياراته.
وبهذه الأمثلة التي وإن ابتعدت قليلاً عن المشكلة الواقعية، إلا أنها
توضح أن فكرة تحويل وجهات النظر لحق مطلق – حتى وإن تبيّن في الحياة الآخرة أنه قد
كان صاحب الحق المطلق فهو يبقى شيء غيبي لا يصلح لمقاييس الدنيا- لا تُبرر إلزامك
للمخالف بأن يُعطيك هذا الاعتراف.
وبالتالي ..الذي أريد أن أصله كختام، هو أن امتلاك النفوذ الأمني
والسياسي ..والدفاعي على بقعة جغرافية ..يستلزم من مالكه الجاهزية للإيفاء بكافة
التزامات المجتمع الذي يحكمه، وليس المعنى فيه مطالبة بالاكتفاء الذاتي، فحتى دول
عربية "مستقلة" لا تفعل، لكن امتلاك القدرة الإدارية على توفير احتياجات
الشعب دون الحاجة لمناصب إدارية أخرى خارج هذه البقعة لحل إشكاليات منطقة لا تملك
عليها أيّة نفوذ على الأرض، وبالتالي تُصبح والشعب تحت رحمة تقلبات الدهر!
0 التعليقات:
إرسال تعليق