يجمع الكتاب بين دِفتيه مجموعة من المقالات التي نشرها الكاتب الساخر ..من الطراز النادر أسامة غريب في صحيفة المصري اليوم، تناولت غالبيتها حالة الانحدار والسحق التاريخي الذي وصل إليه الإنسان في مصر (وينطبق من وجهة نظري على أغلب العالم العربي) ..
ولعمري ..لقد نكأ الكتاب الألم العربي في أوجع صوره .. ووضع أمام ناظريّ مقارنة عجيبة تشبه في إحدى أشكالها ميكانزم التبادل الحراري ..أو قل الانتشار الاسموزي .. بين واقع بلدتي البائسة غزة .. وبلده المنكوب مصر ..لكن المفارقة أن العنصر المتبادل ليس هو الحرارة ولا الأملاح ..بل الانحدار الإنساني في ظل حكومات مشوّهة لم تعرف من الحكم سوى تحقيق المغانم الشخصية .. وليحترق الوطن ..الذي أغرقْنا الدنيا بشعارات نصرته!
أدركتُ غزة في الماضي في ظروف كانت أفضل بكثير مما تعيشه حالياً ..وربما لا أُغالي إن قلت أن الناس كانوا طبقة وسطى وطبقة عليا في الغالبية العظمى ..وهذا للأسف الشديد في عهد الاحتلال، وكذلك إلى حدٍ ما فيما تلاه من حكم السلطة الفلسطينية لبضعة سنوات ..ثم بدأ الانحدار بعد دخول الانتفاضة ..ليتواصل ويُحقق المزيد من "التدني" بتسارعٍ أعلى.. بعد الانتخابات ..فيتمدد ولا يتوقف يوماً واحداً حتى لحظات كتابة هذه السطور..!
يُسلّط الكاتب الضوء على إحدى أهم جوانب الحياة اليومية في مصر، وهي مشاكل الازدحام والاختناقات المرورية، والأداء الحكومي في التعامل مع الأزمة، وحل إشكاليتها، بحيث تضع تركيزها في رفع الغرامات على السائقين والسيارات في إدعاء أنها طريقة مجدية وناجعة جداً لفرض القانون وضبط الحالة المرورية..بدلاً من نشره بطريقة حضارية تجعله يتحول إلى أخلاق ..لا إلى لعنة تلاحق الجيوب، فيتحول الشعب إلى مطاردين مطلوبين للجباية!
يسوق الكاتب مثالاً على أن لدى الحكومة الإمكانية الحقيقية لفرض القانون عندما ترغب في ذلك، وفي غضون فترة قليلة جداً، حينما يستشه بقصة صفقة حزامات الأمان التي جلبها أحد المسئولين ..فما كان من الدولة إلا أن هبّت لمساندته بتطبيق قانون ربط حزام الأمان لتُلزم به مصر خلال أسبوع ..تنتهي بعدها المتابعة لسير القانون بانتهاء الكمية ..وتعود أحزمة السيارات إلى مجاريها!
ولعمري مرةً اخرى ..إني أتلمّس هذا في الأزمات التي عصفت بغزة، على رأسها أزمة الكهرباء التي فاقت كل حد ..فتدفقت على إثرها كل الحلول للسوق المحلية من لمبات الكاز ..ومولدات تعمل بالديزل ..وكشافات بتقنية الـLED، وأجهزة الـUPS، ومولدات صغيرة للأحياء بأسعار فاحشة لكيلو الكهرباء .. وليس انتهاءً بأنظمة الطاقة الشمسية ..! ورائحة البيزنس الحكومي لا تكاد تفارق الحكاية ..!
تحدث كذلك عن الصعود السريع والغريب لأشخاص لا يملكون تاريخاً سياسياً أو نضالياً ..أو مهنياً -كأضعف الإيمان!.
هؤلاء الأشخاص غير المؤهلين لإدارة حديقة، يدفعون بأدائهم -إن صح تسميته بذلك- الشعوب إلى أن تتحسر على أيام السابقين، رغم أنهم لم يكونوا في حالة رضا تام عنهم! وهذه أيضاً إحدى المصائب التي أصابتنا فيها العدوى كذلك ..!
تحدث عن كفاح الشباب ..ليبني كل واحدٍ منهما نفسه بنفسه بعيداً عن تقصير الحكومة اللامتناهي ..وضرب حكاية ممدوح مونتجومري كمثال على هذا البؤس ..
وقد بلغ بنا الأمر ..ما بلغ بمونتجومري حينما نرى الحكومة العاجزة تحاول فرض النظام على شباب بائس يعاني حتى يجد عربة صغيرة يصنع عليها الشاي أو القهوة، والذرة "للغلابا"، أو ينجح في الحصول على بعض البضائع فيسعى لبيعها في أي سوق وعلى أي رصيف من أرصفة الوطن، فما يكون من الحكومة إلا أن تكافحه بشدة، وكأنه حشرة أضرّت بالمظهر العام للبلد، وأثرّ على حركة السياحة! فتصادر ما يملك بحجة فرض القانون ..دون أن يكون لها القدرة على توفير بدائل كريمة له، ودون أن يُدركوا أن ما يمارسونه هو قتل يومي لبقايا الإنسان ولأبسط أحلام الشباب ..!
وكان مما انتقده كذلك ..وزراء ومسئولي الكارت ..أو ما نسميّهم عندنا "الباراشوت" ..ممن خربشوا الكارت على طريقة "اكشط واربح" فوجدوا أنفسهم وزراء ومسئولين عن أرواح العباد ..دونما تدرج أو مسئولية ..
ممدوح مونتجومري كان له رأي غريب وجميل في أولئك القوم، فهو لا يرى داعي للحنق أو الغضب من أدائهم!
تحدث الكاتب عن الكثير ..والكثير ..من التخبط في العلاقات السياسية ..إلى قمع الحريّات التي تتم على أيدي مطحونين لأناس مطحونين .. تحدث عن سحق الموظفين العمومين، الذين هم عماد الدولة، وما تم من عملية قتل وتصفية لضمائرهم والتي أودت بهم إلى الفساد الإداري والرشوة وغيره نتيجة الفاقة المدقعة -ليس مبرر لكنه بالضرورة سبب تفاقم- كل ذلك وغيره وجدته قد أصابنا حتى أسميتُها عملية تمصير غزة ..لكن يا ليته بمحاكاة ما كان فيها من جمال ..بل باقتباس جوانب التعاسة ..والتعاسة فقط ..!
أما الجانب الآخر ..والذي رأيته يتسرب من بلدتي التي أُصيبت بشتى أنواع الأدواء ..إلى مصر وإلى غيرها من الدول العربية ..هو داء العنصرية والحزبية والتعصب الأعمى ..
عِشتُ في مصر شيء بسيط من طفولتي ..وأذكر أنني احببتها حقاً ..ذلك أنني شعرتُ بالحنين واختلاف الحياة (للأسوأ) حينما تغيّرت طباع الناس من حولي ..من مصر إلى غزة ..
مصر حيث الحب ..والناس البسطاء ..والنفوس الصافية ..حيث لا نزْعات فتح وحماس وتكفيري وخلافه ..باتت حالياً مصابة بمثل ما أصابنا بل ربما لمستوى أسوأ .. وما ممارسة الردح على الفضائيات -مما كنّا ولا زلنا نراه بين مسئوليّنا- عنّا ببعيد ..!
ولشد ما كانت صدمتي أن رأيتُ ما يُماثله كذلك في الشعب السوري ..جسدته دراما "بقعة ضوء" التي كانت وما زالت تعكس الحالة السورية منذ سنين .. سوريا الجمال كذلك ..؟! يا لشدة بؤسنا!
وكأنّي بالعالم العربي لا يتبادل أو يُصدّر سوى التعاسة والبؤس والسوء..في عملية انتشار غير ميمونة ..تُشبه الانتشار الاسموزي الذي اخترته للتشبيه ابتداءً ..!
وبرغم كل المآسي والتبعات للعنة أن تكون عربي والتي ذُكر شيء منها أعلاه، اللعنة التي تلاحق حياتك اليومية ..والتي رغم حضورها الدائم تُحاول أن تصنع فيها شيئاً بديعاً ..أن تعيش الجمال ..الحب ..تبتعد عمّا ينغصك ..إلا أنها تأبى إلا أن تلاحقك مهما وضعتَ بينك وبينها حواجز ومصدات ..
على كلٍ .. رغم أن حوالي 90% أو أكثر من المقالات التي كتبها غريب كانت حول الأزمات ...إلا أنه لم ينس نصيبه من الحب ..
ولتلطيف الجرعة المخيفة من البؤس أعلاه، أقتبس بعض ما ورد فيه، وما ذكر عن التقاط التوليفات! في "الحب والوقت ..من يقتل من؟"