أحد عشرّ عاماً من العزلة، مذ أعلن الشعب في
غزة أنه يرغب في إجراء بعض التغييرات والإصلاحات ..حيث ملّ الديكور القديم وآن
أوان تجربة نوع جديد من التأثيث لأركان المكان ..
لم يكن يعلم أن ضريبة الخيار الديموقراطي ستكون غالية
إلى حد لا يوصف ..ولم يكن ليُستقرأ ..
فالجهة المتغلبة بالصندوق، دفعت ثمن فوزها حصاراً
كونها مصنّفة عالمياً -لا ليست شاربوفا- كحركة "إرهابية"، ففرضت عليها
عزلة سياسية، وحصاراً اقتصادياً على البقعة الجغرافية الأكثر من متواضعة في كل شيء والتي ابتلاها
الله بكل هذا الزخم .. ومنه ذاك الحصار الذي أوجد لاحقاً بيئة خصبة للبدء ببعض الاستثمارات
المحلية كبديل للـ"برستيج" السياسي!
الشعب ..دفع نفس الثمن من العزلة عن العالم،
وأصبح في تصنيف هو أدنى جداً من التصنيف القرآني للمستضعفين في الأرض، ففي سورة
النساء:
"قالوا فيمَ كنتم قالوا كنّا مستضعفين في الأرض، قالوا ألم تكن أرضُ
الله واسعةً فتهاجروا فيها"؟!
والواقع والمعبر يشهدان أنه حتى أرض الله الواسعة لا
نستطيع أن نهاجر فيها ولا إليها ..وبالتالي فهذا التصنيف هو نتاج عصري جداً
لم يعرفه التاريخ الحافل بحركة القوافل ..!
الشعب دفع ثمن الإجراء الإقليمي الذي ابتدأته
إسرائيل، وهو في الحقيقة ومن باب المنظور العدائي منطقي جداً كإجراء مضاد لجهات
تنتوي علناً إفناء وجودهم -فالأصل ألا يُستغرب ..بل أن يكون متوقعاً ومدروساً من
قبل الجهة التي أقدمت على تلقف الحكم!- ودفع كذلك -أي الشعب- ثمن إصرار الحركة
الفائزة على تكملة تجربة الحكم ..رغم أن السماء الملبّدة بالمصائب وبالصواعق المرسلة،
كانت جليّة وواضحة دونما حاجة لا إلى استقراء
ولا لجهود المحللين.
دفع الثمن من قوْته ..ومن أمنه ..ومن دم أبنائه الذين
انساقوا لقياداتهم في صراع داخلي ..أسفر عن انقسام وطن .. لم يوضع على الطاولة
أصلاً .. ثم استمر في دفع ثمن التضييق والخنق والبزنس والأنفاق وثلاثة حروب شعواء
حمقاء ..وحرمان من السفر والعلاج وضياع للفرص وأزمات في الكهرباء والمياه والبنى
التحتية وإعمار ما دمرته الحروب والفقر والبطالة وأكوام الخريجين وأزمات الموظفين
وتوغل وتغول لأهل السلطة والنفوذ في عملية التطور والتطوير المستمرة للبزنس الضارب
في أعماق الأوردة ..كل ذلك نسيه أو تناساه الشعب في تلك اللحظة الباهرة التي أعلنت
فيها حماس حلّ اللجنة الإدارية وتوجهها للمصالحة مهما كانت التنازلات في سبيل ذلك
"مؤلمة"!
دبّت الحياة والآمال في الأوردة المفرغة والقلوب
المحطمة التي ضربتها أعاصير اليأس حتى ما كادت تُبقي فيها رمقاً .. بعد أن فُرّقت..وسُجّرت
وعُصفت ..!
سبق ذلك جهوداً في اتجاه ما عُرفت بـ"صفقة القرن"
والتي كانت مثل بصيص خجول من الأمل، فيما يتعلق تحديداً بـ"انفرجات" على
الصعيد الحياتي ..في مقابل كوارث على الصعيد السياسي، بطرح فكرة دولة غزة مع
امتداد في سيناء، وتحويل الضفة إلى كنتونات بوصاية أردنية.
لكن ..تلاشى كل شيء فجأة ..!واختفى عن الإعلام ذلك التقارب الناعم بين أعداء
الأمس، الذين تكفل الود الحاصل بينهم على عقد جلسة مشتركة للمجلس التشريعي، وطفت فكرة
مصالحة الضفة وغزة إلى السطح، مع استبعاد قطعة الإمارات من الرقعة!
وبدأت سلسلة التنازلات "المؤلمة"، والتي
وللحق لم يكن يتوقعها أي خبير بعقلية حماس ..وصدقاً قد فاجأت الجميع بحجم المرونة
والتسهيلات ..
لا أحد يعلم فعلياً حقيقةَ السبب الذي دفعها لذلك وأذاب
الجليد، بل الصخور التي كانت تقبع في تلك العقلية طوال تلك الفترة، فمن غير
المعقول استيعاب فكرة أنها وقعت في غرام الشعب بعد 11 عاماً من الحكم، فقررت التنحي للتخفيف من معاناته، تلك فترة طويلة حقاً
لحدوث ذلك! لكن، هل تراءى مثلاً لقيادة حماس المستقبل المظلم ..أو ربما ذاك القبر الكبير
الذي أُعد لغزة برعاية وتمويل عربيين جداً في حال لم تفعل، كما فُعل لليمن، وكما
يُعد للبنان؟!
بغض النظر عن حقيقة الأسباب، وبالتركيز فقط على ما يحدث من نتائج في هذه الأيام، وبعد سلسلة التنازلات التي تنافس عدد فروع
ماكدونالدز، المعلوم بالضرورة أن الطرف "الضفاوي" يُمعن في عملية لي
الذراع، التي ابتدأها مذ نشأة اللجنة الإدارية وحتى لما بعد حلها وتسليم المعابر
..!
طبعاً ..الشعب هو الجهة التي تُحاسب دائماً على موائد
اللئام ..
برز مصطلح التمكين فيما يُذكرنا في تكراره بمصطلح
"شرعية" مرسي، والذي يُطالب دائماً بالمزيد، ويتدحرج ككرة الثلج،
ويتباكى كطفل فقد لعبته: "الحكومة لم تتمكن بعد ..!"
أتساءل بكل صدق ماذا يقصدون فعلاً بهذا المصطلح
كترجمة عملية مكوّنة من نقاط واضحة تماماً دون إبهام؟ وما هو المقصود بأن اللجنة الإدارية
ما زالت تمارس مهامها؟ وأن الموظفين "الشرعيين" لم يتمكنوا من العودة
لمقارّ عملهم؟!
هل المنتظر من موظفين حكومة غزة/حماس أن يعودوا إلى
ديارهم ويُخلوا مقراتهم ليتمكن القابعين في البيوت منذ أحد عشر عاماً من العودة
لأماكن خالية؟!
حتى حينما تم تسليم المقرات للسلطة بعد أوسلو، كان
المسئول الصهيوني يسلم نظيره الفلسطيني المقر ومتعلقاته..ولم تُسلم أماكن خاوية!
السؤال الذي يطرح نفسه ..هل وقْع المفاجأة من حجم التنازل
الذي قدمته حماس، أبدى سوء نوايا الطرف الآخر حول جدية إنهاء الانقسام ..؟
أم أن هاجس الجانب الأمني، وأن القوة الحقيقية على
الأرض ما زالت بيد من انقلب مسبقاً ويمتلك القدرة على الانقلاب لاحقاً، هو الهاجس
والكابوس والدافع الأساسي للتلكؤ؟!
أغرب ما أُثير أنه تم الحديث حوله، هو طرح معضلة سلاح المقاومة،
والذي لا يختلف أحد على أنه يجب أن يُضبط، وأن لا يُرى في الشارع في النزاعات وفرض
العضلات كما كان في السابق، وإلا اتُهم ..ووجب نزعه ..
أما أن يُطرح في إطار تفاهمات داخلية، فهذه جريمة لا
تعدلها جريمة ..ولا يُمكن القبول بها ضمن نقاش ملف المصالحة سوى في الإطار الموضح أعلاه، أما في إطار سياسي، فإنني أتفق تماماً مع فكرة نزعه أو إلقائه في البحر حتى،
لو كان هنالك ثمناً سياسياً حقيقاً، مثل دولة ذات سيادة على حدود 67، وبعدها لكل
حادث حديث.
أخشى ما أخشاه، أن ما يتم هو استمرار حقيقي، ودور
التفافي لدحرجة الكرة، وتحويل الدفة مرّةً أخرى لتمرير تلك الصفقة اللعينة بحيث
تُصبح مسيحاً لشعب أنهكته المعاناة، والتي ستعقبها على الأغلب أثمان فادحة جداً.
0 التعليقات:
إرسال تعليق