قد يتعجب الكثيرون من جرأةٍ في العنوان "الإيمان بالأسباب" ..لكن وقبل أن أبدأ في مقصدي، الأصل أن يشفع له "بين"، وهذا للتوضيح لا أكثر.
من وجهة نظري، من أهم الأزمات والفجوات بين الغرب وما وصل إليه، وبين العرب وما انحدروا إليه هو هذه القناعة تحديداً. فالغرب، بماديته بلغ إيمانه بالأسباب منتهاه، بأنها هي المفسّر الوحيد لكل شيء، وأن أي غاية تود أن تصلها، لابد أن تسلك لها أسبابها الموصلة إليها، وبغير ذلك لن تصل ..ولن تفعل ذلك صلواتك ودعواتك ..ولو أنفقت في ذلك عمرك كله...وهذا حق وواقع بشكل لا يُمكن إنكاره بالجملة!
في المقابل، ما زال العديد من المسلمين مشدودين أكثر ناحية "النظرة السحرية" للعالم، وأنه ربما تأتي كارثةٌ ما فتمحو أعداءَهم ..أو يصب الله عليهم من غضبه بالأمراض والأوجاع ..إلخ من الدعوات التي تُطلق منذ مئات السنين من ترميل نساءهم وتيتيم أطفالهم ..وضرب ظالميهم بعضهم ببعض ..وأن نخرج نحن من ذلك سالمين غانمين ..غير خزايا ولا محرومين!
طبعاً ..بغض النظر عن أن كل ذلك يخالف فكرة: "وما أرسلناك إلا رحمةً للعالمين" ..وأنه نوع من التوحش المذموم إنسانياً ..والمرفوض بـ"ألف باء" الأخلاق ..لكن لو وضعنا ذلك الآن جانباً ..لخلصنا إلا أننا أمة لا تعمل ..ولا تملك إرادة حقيقية للنهوض القائم على الأسباب التي وضعها الله كـ"نواميس" ثابتة للكون.
لنكن واقعيين .. أولاً ..كل تلك الدعوات لم تغير من حالنا الحقيقي شيء ..بل نحن من نغرق في دمائنا وجهلنا.
ثانياً ..وهو الأهم ..يجب أن نعتقد بالأسباب ..نعم التغيير على المستوى الأممي على مستوى الحضارات لم يحصل يوماً أن تغير بـ"عصا سحرية" حتى في عهد الرسول (ص) نفسه! فكان ما يعرفه الجميع من إعداد وتقلب وتغير حالٍ ..ومن ضعف إلى تمكين حتى تم الفتح.
ثالثاً: لا ينبغي أن تكون الأقدار هي الشماعة الدائمة لكل فشل، فكما قال أحدهم: "الأقدار لا تُعفي من المسئولية ..وإلا استعفى بها كلُ طاغيةٍ مجرم". وهذه يمكن قياسها على كل نتيجة جيدة أو سيئة بلغتها في حياتك، دون الحاجة إلى الشماعات.
أخيراً: أحد أهم فوائد "الإيمان" بالأسباب ..هي التخلص من آفة متجذرة للغاية ..آفة الحسد ..والنظر لما في يد الغير، وبغضه لذلك مع تمني "فشله" ..!
والسبب من وجهة نظري في هذا المرض هو فكرة إقصاء الأسباب كمحرك رئيس وضعه الله في الكون. فمن ذات النظرة السحرية، يسخط البعض من منطلق أن الله قد منح فلاناً ..ومنعه! ولو أن العقل والنظر في الأسباب كان له الغلبة في مثل هذا، لكن أجدر أن ينظر لأسباب نجاحه فيحتذي ..أو يُفكر بطريقة مماثلة أو مشابهة ..أو أضعف الإيمان ..أن يعمل ..وأن ينظر هل أسبابه مماثلة لأسباب "المنظور إليه" فيصل لذات النتائج المأمولة..أم أن لكل منهما همّة ..وقدرة؟!
الآن ..قد يسأل البعض ..وهل بقي في ذلك من التوكل شيء؟!
نعم ..بقي كله ..إيمانك أن الكون قائم على الأسباب ..هو إيمان حقيقي وواقعي بحد ذاته. ثم إن السنن الكونية اقتضت كما ذكرت أن تكون الأسباب هي الحَكَم في تغير الأمم والحضارات ونهوضها..أما على صعيدك الفردي ..حينما "تعقلها وتتوكل" ..فسيجعل الله لك مخارج وفرج لم تكن تحسبه ..حتى وإن فقدت غايةً عزيزةً بذلت كل الأسباب في وصولها وحال دون ذلك أسباب خارجة عن نطاق فعلك وتأثيرك..فهنا يكمن "التوكل" و"الرضا" الحقيقين".