بينما كنتُ أكسرالملل بمحاولة تذوق بعض الشعر، وجدتُني أطلبُ المتنبي، لضمان تحقيق الهدف المنشود ..فلاحت رائعته في رثاء محبوبته "أخت سيف الدولة" والتي يقول في مطلعها:
يا أُخْتَ خَيرِ أخٍ يا بِنْتَ خَيرِ أبٍ
***
كِنَايَةً بهِمَا عَنْ أشرَفِ النّسَبِ
إلى أن وصلتُ إلى:
وَإنْ تكنْ خُلقتْ أُنثى لقد خُلِقتْ ***
كَرِيمَةً غَيرَ أُنثى العَقلِ وَالحَسبِ
وهنا توقفتُ ..وتعجبت! فمعيار تكريم الأنثى في عصرهم، في عقلها وحسبها هو مدى اقترابهما من التذكير ..! وكأنه من المخجل أو المعيب في زمانه أن يذكر محاسن كرمها بصفتها المؤنثة المجردة!
لكن الغريب أن يأتيَ البيت التالي ..بشكل يُظهر أن في نفس المتنبي شيء يدفعه لأن يُفرد لمحبوبته -على استحياء- نوعاً من التميز عن قومها ..حين قال:
وَإنْ تكنْ تَغلِبُ الغَلباءُ عُنصُرَهَا ***
فإنّ في الخَمرِ معنًى لَيسَ في العِنَبِ
وما يرمي إليه ..أنه وإن كانت من قبيلة تغلب -المعروفة بمكانتها- فإنها رغم ذلك تملك مزيتها الخاصة ..تماماً كالخمر الذي يحمل في مذاقه تفرداً يختلف عن أصله ..العنب.
وهو في هذا البيت ..قد أسبغ عليها شيئاً مما وصف به نفسه ..في بيت من أفخر ما قيل في النفس ..
لا بقومي شرُفت بل شرُفوا بي *** وبنفسي فخرت لا بجدودي
وهو بصنيعه هذا يعكس مدى حبه لها ..فمعروف كم كان يعتد المتنبي بنفسه ..ومن يتصف بنوعية اعتداده صعب أن يحمل صفاته لغيره، إلا لذوي المنزلة الرفيعة!
وعودة إلى أصل الموضوع ..يظهر بالفعل مدى صعوبة مدح الأنثى لذاتها في عصره، والتحرج من ذلك، ففي مطلع قصيدته شرّف مكانتها بنسبها إلى أخيها وأبيها ..ثم البيت الذي يُقرُ فيه بأنها حازت مكانة مميزة لأنها امتلكت عقلاً "غير مؤنث". لكنه مع ذلك، حاول تمرير مدحاً مغلفاً .. في قصيدة أخرى علّه يؤثر في نظرة المجتمع حين قال في محبوبته أيضاً:
ولـــو أنّ النـــساء كمـن فـــقـدنــا *** لفُضلت النساء على الرجالِ
فما التأنيثُ لاسم الشمسِ عيبٌ *** ولا الــتــذكــير فـــخرٌ للـهلالِ
إذن ..هو كان يتعامل مع ثقلٍ مجتمعي رهيب ..يحاول أن يخترقه بوجل!
لكن في الواقع ..وللأسف ..أرى أن هذا الإرث لم ينتهِ بعد ..وهذا الثقل ما زال يُلقي بظلاله في مواطن كثيرة في حياتنا.. وفي مجتمعاتنا، ما زال البعض يسوّد وجهه وهو كظيم ..إذا بُشر بالمولودةِ الأنثى ..ما زال البعض ..يقول للبعض الآخر "الله يعوض عليك" ..إذا رُزق بالإناث ولم يرزقه الله بالولد ..الذي سيزول ويذهب ذِكر اسمه وعائلته أدراج الرياح إذا لم يأتِ ..! وما زالت المرأة تدفع ضريبة أن الولد لم يأتِ بعد ..فُتطالبَ باستمرار الإنجاب حتى تأتي به ..بغض النظر عما يصيبها من إرهاق جسدي من أجل هذا الهدف المنشود ..الذي ستتوقف من غيره الحياة! ومن أجل التخلص من الشفقة المجتمعية المقيتة!
ما زالت المرأة تُعاني في الإرث ..في لقب "المطلقة" ..في كثير من التفاصيل التي جعلت من "التأنيث" ..مشكلة بحد ذاتها!
المشكلة أننا في هذا السياق وهذا الحصار المجتمعي ..لا نلتفت إلى مدى التفوق الذي حققته "الأنثى" في كثير من المجالات ..ويكفي فقط أن تستطلع الأمر من البدايات ..من المراحل المدرسية لتُدرك الفارق! فهي أصبحت -حقيقةً لا شك فيها- كياناً يُعوّل عليه بذاته ..يُكتفى به ..وبلمسته الحانية على عائلتها ..والتي حدث في قصصنا التراثية أن بقيت ..وذهب البنون!
قال ابن عُربي .."المكان الذي لا يُؤنث ..لا يُعوّل عليه" ..وأقول أنه في زماننا إنصافاً ..كل ما لا تُصيبه لمسة أنثى ..لا يعوّل عليه ..
0 التعليقات:
إرسال تعليق