عادةً ما أتبنى رأياً بأنه لا ينبغي أن نستقي المعلومات التاريخية من الأفلام والمسلسلات، لأن الحبكة الدرامية تتطلب أحياناً اختلاق وقائع لم تحدث. لكن مع ذلك لا بأس من محاولات الفهم المنطقي لتسلسل الأحداث ..حتى ولو لم تتوفر القاعدة المعلوماتية التاريخية الكافية للتدقيق في المسلسل ..فلا بأس من نظرة الناقد الفاحص ..
ومن ذلك ..على سبيل المثال ما يتكرر في المسلسلات التاريخية من أفكار كنبوءات المنجمين أو هواتف في المنام تُنذر بأحداث مستقبلية ..وهي خوارق لم نجد منها في واقعنا ..وفي ملوك الطوائف حدث ذلك في موقعين ..
الأول ..حينما حذّر أحد المنجمين ..المعتضد بن عبّاد من أن ملكه سيزول على يد أحد أبنائه من أُناس يأتون من المغرب ..وهذا قبل سنين عديدة من حدوثه ..قد تصل للثلاثين أو أكثر حسب المسلسل ..
أما الثانية ..فهي التحذير الذي وقع لابن عمار بهاتف في المنام ..بصوت يقول له:
وهذه "البهارات" التاريخية تكررت مسبقاً ..كما في مسلسل أبو زيد الهلالي ..حينما كانت تتكرر رؤية الغراب الذهبي -على ما أذكر- وإن كانت تشفع لفكرة أبو زيد الهلالي كمية الأسطرة التي وقعت على الشخص ..مما يجعل النظرة إلى مسلسله نظرة "فانتازيا" أكثر من كونها تاريخية.
على كلٍ .. نبدأ التحليل بطريقة الشخصيات ..
أبو القاسم ..أول ملوك بني عبّاد ..على اشبيلية فيما عُرف ابتداءً وقتها بحكم الجماعة ..لم يطل دوره في المسلسل ..لكنه بدأ فعلاً التوجه التوسعي ..وأقرّ على المعتضد آراءه في أكثر من موضع، مما يعني أنه كان بوابة ابنه لما حدث بعد ذلك، فقد كان يحمل ذلك في جيناته كما يبدو!
الداهية ..الطاغية ..المعتضد بن عباد ..
يتلاعب بالجميع ليصل إلى أهدافه ..وكأنه يمارس السياسة بقواعد العصر ..أو بميكافيليتها الخالصة ..
لا يتورع أن يقتل كل من يعترض طريقه ..أو يُهدد حكمه ولو من بعيد ..حتى إنه بدأ بجماعة والده ..أبو القاسم بعدما تُوفي ..فقتل زعيمهم حينما بدا له تأليبه للناس ..بعد أن قضى بنفيه ومن معه ..!
ولم يكن آخراً أن قتل ولده البكر وقائد جنده، إسماعيل، بيديه حينما تآمر عليه وأراد قتله "احترازاً" منه على روحه ..فكان الداهية هو الأسبق!
لكن مع ذلك ..أرى أنه لعب السياسة بقواعدها فعلاً ..وهنالك العديد من الوقفات التي تحدث فيها عن رؤيته للسلطان ..والحكم ..والسياسة ..أقتبس منها ..
ومنها:
"عيب ابن حمود لم يكن في أنه كان يطلب توسيع مملكته والاستيلاء على قرمونة، ولكنه كان يطلب ما يطلب ..والحق يدور مع الغلبة ..والحال في الأندلس الآن أنه لن يقنع أمير قوي بحدود مملكته ..فإما أن تأكل أو تؤكل ..تلك هي القاعدة"
"وغاية كهذه لا تتحقق بالقوة ..والوسيلة جيشٌ عظيم وسياسة حازمة لا تهاون فيها ولا تراخي ..وليس عندي منزلة بين المنزلتين ..فإما أن يكون الرجل معي ..أو علي!"
وفي مشهد مع ولده، وهو يراجعه بأنهم قد قسوا كثيراً على أهل مدينة ما ..بعد أن شددوا عليها الحصار ..ألقى عليه المعتمد نظريته في السلطان والملك قائلاً في حوار دار على النحو التالي:
- "هذه هي القاعدة ..لا تترك عدوك يهنأ في مقامه ..كلما رجعت عنه عاودته ..حتى تضيق عليه الأرض بما رحبت"
- "ولكن يا أبتي ..هل يجب أن نثابر على إتلاف الزرع والضياع وتخريب القرى وترويع أهلها"
- "كأنك قد خرعت"
- "إنما يخرع الرجل ممن يخاف يا أبتِ، ولكني أشفقت على ضعافهم من كثرة ما لقوا منا"
- " الشفقة لا أسمعك تنطقها ..فهي لا تصلح للسلطان، ولو كنت سأشفق على أحد ..لكان حرياً بي أن أصرفه لولدي ..فلا أقدمه على عسكري في الحرب، ولكنها سنة السلطان، مغارمه على قدر مغانمه، وأنا أريد أن أورثكم ملكاً عظيماً.
يسمونها أطماع، وهل اتسعت الدول إلا بالطمع، ثم تُصاغ لها المعاني الجليلة كالفخر والعزة والمجد والقوة.....ومن ينزل عن ملكه حبّاً وكرامة ..رضا الناس غاية لا تدرك، ولكنني لا أطلب الرضا ..بل أطلب الرهبة ..احفظها عني يا إسماعيل ..احفظها"
ومن أبرزها كذلك ..
"ويُقال طاغية ..! هل يجب أن أسلم عنقي لأعدائي حتى أتبرأ من هذه التهمة ..؟! وليكن طاغيةٌ حي منتصر ..ولا موادع ميّت"
أما أغرب ما كان ..هو إثبات أنه مهما طغى الشخص، يبقى في قلبه نقطة ضعفٍ قد يؤتى منها ..وهو ما حدث للمعتضد حينما توفيت ابنته فاطمة ..فأقام على قبرها وقد تفطر قلبه وزهد في الملك والحياة!
والغريب ..النادر أن يعترف الطاغية ويُقر بسوداوية سيرته ..فيقول وهو على قبر ابنته:
أخييراً ..سُئل ابن زيدون، وزير المعتضد ومستشاره بعد وفاته ..كيف استطاع أن يصمد مع المعتضد كل تلك السنون دون أن يفتك به، فقال قولته الشهيرة:
"كنتُ كمن يُمسك أذني الليث يتقي سطوته، تركه أو مسكه!"
وأنشد يقول:
لقد سرنـــــــا أن الجـــحيم موكــــلٌ *** بطاغيـــةٍ قد حمّ منه حمامُ
تجانفَ صوب المزن عن ذلك الصدى ** ومر عليه الغيث وهو جهامُ
لم أكن أتوقع أن يأخذ الحديث عن المعتضد والاقتباس كل تلك المساحة لكنها شخصية تستحق التوقف ..ولتجنب الإطالة ..أُكمل التحليل والنظر في الشخصيات في مقالات قادمة ..
0 التعليقات:
إرسال تعليق