تعديل

الأحد، 10 ديسمبر 2017

سيناريو لترف المخيلة ..لو أن مدن الملح جلبت يوماً شيئاً من السكر!





تخيّل سيناريو آخر مختلف تماماً عن كآبة الواقع، سيناريو ..لو أن أصحاب الخيام، وسعف النخيل وبيوت الشعر، ممن فاضت أرضهم بالخير والكنوز. الأرض التي عاشوا على ظهرها قروناً دون أن يُدركوا أو حتى أن يخطر لهم ببالٍ أي كنزٍ يقبعون فوقه! تخيّلوا لو أنهم لم يكونوا على هذا القدر المخيف من الجهل! 

لو أنهم كانوا على اتصال واحتكاك بالعالم منذ اللحظة التي تفتق فيها العقل البشري، وانفجر في وجه الجهل والتخلف والرجعية، فانتقل بالإنسان إلى درجاتٍ مختلفة تماماً من الحياة بطريقة لم يعهدها ولم يعتدها. تطورت الصناعات ونهضت العلوم بتسارع مخيف جعل من حياة الغرب ترتقي بسرعة تتفوق بسنوات ضوئية على أقوامٍ حولهم  لم يتخذوا نفس الأسباب، بل ربما نظروا إليها على أنها كفر، أو سحر أو من عمل الشيطان! 

لو أن قوم البادية القابعة على كنوز النفط، اتصلوا بهذا العالم منذ بداياته، ومنذ بدأ ينهب الأرض ويغزو السماء بحثاً عما يدعم عجلة العلم والصناعة، فتوصل إلى النفط، في الوقت الذي كان فيه أهل البادية يوقدون الشموع من دهون الإبل أو ما شابه، ليضيئوا عتمتهم الطويلة ..لو أنهم فعلوا واتصلوا وأدركوا كيف تُنقّب الأرض وكيف يُستفاد من هذا الكنز، لكانت لهم اليد الأعلى والسبق في السيطرة على الكم الأكبر والثروة الأوفر من الكنز. 

لم يكتفِ القوم أنهم امتنعوا عن السعي للحاق بركب الأمم والعلم، بل وضعوا حواجز وموانع بين من "تسوّل" له نفسه من أقوامهم أن يفعل، تارةً بحجج من العادات والتقاليد ودعاوي اختلاف الأعراف وطرق الحياة، وتارةً أخرى بالدين وفتاوى شيوخ مردوا على الجهل، وعلى تحريم التعامل مع "الكفار" أو الإفادة من منتجاتهم أو أفكارهم. 

لو أنهم فعلوا ما لم يجدوا لهم واعظاً وقتها، أو ربما وجدوا ووأدوا صوته، وأدركوا أسرار الصناعة، ونقلوا الحضارةَ أولاً بأول، هل كانت بلادهم لتقع رهينة وفريسة للغربي، يلتهمها كيفما شاء؟! هل كانت ستنتظر كل تلك السنون حتى يأتي الغربي، ليُنقب ويبحث الأرض فيُخرج الكنوز التي ضاعت قيمتها على أيدي رعاة الإبل، ويحتفظ باليد العليا ويحكم في بلادهم كما اتفق ومصالحه؟ ألم يكن أصحاب البلاد الآن وفي أيامنا هذه أحد أهم صنّاع الحضارة ومصدريّ التكنولوجيا ..وبالتالي كانت أجندتهم لتكون خالية من مآسي التبعية؟!


ألا سحقاً للجهل ..كيفما تشكّل وحلّ ..ولو لبس ثياب الدين نفسه ..

الاثنين، 27 نوفمبر 2017

يا مسكين ..كم ضاع منك بين الإصلاح ..والتمكين!





أحد عشرّ عاماً من العزلة، مذ أعلن الشعب في غزة أنه يرغب في إجراء بعض التغييرات والإصلاحات ..حيث ملّ الديكور القديم وآن أوان تجربة نوع جديد من التأثيث لأركان المكان ..
لم يكن يعلم أن ضريبة الخيار الديموقراطي ستكون غالية إلى حد لا يوصف ..ولم يكن ليُستقرأ ..

فالجهة المتغلبة بالصندوق، دفعت ثمن فوزها حصاراً كونها مصنّفة عالمياً -لا ليست شاربوفا- كحركة "إرهابية"، ففرضت عليها عزلة سياسية، وحصاراً اقتصادياً على البقعة الجغرافية الأكثر من متواضعة في كل شيء والتي ابتلاها الله بكل هذا الزخم .. ومنه ذاك الحصار الذي أوجد لاحقاً بيئة خصبة للبدء ببعض الاستثمارات المحلية كبديل للـ"برستيج" السياسي! 
الشعب ..دفع نفس الثمن من العزلة عن العالم، وأصبح في تصنيف هو أدنى جداً من التصنيف القرآني للمستضعفين في الأرض، ففي سورة النساء:

 "قالوا فيمَ كنتم قالوا كنّا مستضعفين في الأرض، قالوا ألم تكن أرضُ الله واسعةً فتهاجروا فيها"؟!

والواقع والمعبر يشهدان أنه حتى أرض الله الواسعة لا نستطيع أن نهاجر فيها ولا إليها ..وبالتالي فهذا التصنيف هو نتاج عصري جداً لم يعرفه التاريخ الحافل بحركة القوافل ..!

الشعب دفع ثمن الإجراء الإقليمي الذي ابتدأته إسرائيل، وهو في الحقيقة ومن باب المنظور العدائي منطقي جداً كإجراء مضاد لجهات تنتوي علناً إفناء وجودهم -فالأصل ألا يُستغرب ..بل أن يكون متوقعاً ومدروساً من قبل الجهة التي أقدمت على تلقف الحكم!- ودفع كذلك -أي الشعب- ثمن إصرار الحركة الفائزة على تكملة تجربة الحكم ..رغم أن السماء الملبّدة بالمصائب وبالصواعق المرسلة، كانت جليّة وواضحة دونما حاجة لا  إلى استقراء ولا لجهود المحللين.

دفع الثمن من قوْته ..ومن أمنه ..ومن دم أبنائه الذين انساقوا لقياداتهم في صراع داخلي ..أسفر عن انقسام وطن .. لم يوضع على الطاولة أصلاً .. ثم استمر في دفع ثمن التضييق والخنق والبزنس والأنفاق وثلاثة حروب شعواء حمقاء ..وحرمان من السفر والعلاج وضياع للفرص وأزمات في الكهرباء والمياه والبنى التحتية وإعمار ما دمرته الحروب والفقر والبطالة وأكوام الخريجين وأزمات الموظفين وتوغل وتغول لأهل السلطة والنفوذ في عملية التطور والتطوير المستمرة للبزنس الضارب في أعماق الأوردة ..كل ذلك نسيه أو تناساه الشعب في تلك اللحظة الباهرة التي أعلنت فيها حماس حلّ اللجنة الإدارية وتوجهها للمصالحة مهما كانت التنازلات في سبيل ذلك "مؤلمة"!

دبّت الحياة والآمال في الأوردة المفرغة والقلوب المحطمة التي ضربتها أعاصير اليأس حتى ما كادت تُبقي فيها رمقاً .. بعد أن فُرّقت..وسُجّرت وعُصفت ..!

سبق ذلك جهوداً في اتجاه ما عُرفت بـ"صفقة القرن" والتي كانت مثل بصيص خجول من الأمل، فيما يتعلق تحديداً بـ"انفرجات" على الصعيد الحياتي ..في مقابل كوارث على الصعيد السياسي، بطرح فكرة دولة غزة مع امتداد في سيناء، وتحويل الضفة إلى كنتونات بوصاية أردنية.

لكن ..تلاشى كل شيء فجأة ..!واختفى عن الإعلام ذلك التقارب الناعم بين أعداء الأمس، الذين تكفل الود الحاصل بينهم على عقد جلسة مشتركة للمجلس التشريعي، وطفت فكرة مصالحة الضفة وغزة إلى السطح، مع استبعاد قطعة الإمارات من الرقعة!

وبدأت سلسلة التنازلات "المؤلمة"، والتي وللحق لم يكن يتوقعها أي خبير بعقلية حماس ..وصدقاً قد فاجأت الجميع بحجم المرونة والتسهيلات ..
لا أحد يعلم فعلياً حقيقةَ السبب الذي دفعها لذلك وأذاب الجليد، بل الصخور التي كانت تقبع في تلك العقلية طوال تلك الفترة، فمن غير المعقول استيعاب فكرة أنها وقعت في غرام الشعب بعد 11 عاماً من الحكم، فقررت التنحي للتخفيف من معاناته، تلك فترة طويلة حقاً لحدوث ذلك! لكن، هل تراءى مثلاً لقيادة حماس المستقبل المظلم ..أو ربما ذاك القبر الكبير الذي أُعد لغزة برعاية وتمويل عربيين جداً في حال لم تفعل، كما فُعل لليمن، وكما يُعد للبنان؟!

بغض النظر عن حقيقة الأسباب، وبالتركيز فقط على ما يحدث من نتائج في هذه الأيام، وبعد سلسلة التنازلات التي تنافس عدد فروع ماكدونالدز، المعلوم بالضرورة أن الطرف "الضفاوي" يُمعن في عملية لي الذراع، التي ابتدأها مذ نشأة اللجنة الإدارية وحتى لما بعد حلها وتسليم المعابر ..!
طبعاً ..الشعب هو الجهة التي تُحاسب دائماً على موائد اللئام ..
برز مصطلح التمكين فيما يُذكرنا في تكراره بمصطلح "شرعية" مرسي، والذي يُطالب دائماً بالمزيد، ويتدحرج ككرة الثلج، ويتباكى كطفل فقد لعبته: "الحكومة لم تتمكن بعد ..!"
أتساءل بكل صدق ماذا يقصدون فعلاً بهذا المصطلح كترجمة عملية مكوّنة من نقاط واضحة تماماً دون إبهام؟ وما هو المقصود بأن اللجنة الإدارية ما زالت تمارس مهامها؟ وأن الموظفين "الشرعيين" لم يتمكنوا من العودة لمقارّ عملهم؟!

هل المنتظر من موظفين حكومة غزة/حماس أن يعودوا إلى ديارهم ويُخلوا مقراتهم ليتمكن القابعين في البيوت منذ أحد عشر عاماً من العودة لأماكن خالية؟!
حتى حينما تم تسليم المقرات للسلطة بعد أوسلو، كان المسئول الصهيوني يسلم نظيره الفلسطيني المقر ومتعلقاته..ولم تُسلم أماكن خاوية!

السؤال الذي يطرح نفسه ..هل وقْع المفاجأة من حجم التنازل الذي قدمته حماس، أبدى سوء نوايا الطرف الآخر حول جدية إنهاء الانقسام ..؟
أم أن هاجس الجانب الأمني، وأن القوة الحقيقية على الأرض ما زالت بيد من انقلب مسبقاً ويمتلك القدرة على الانقلاب لاحقاً، هو الهاجس والكابوس والدافع الأساسي للتلكؤ؟!

أغرب ما أُثير أنه تم الحديث حوله، هو طرح معضلة سلاح المقاومة، والذي لا يختلف أحد على أنه يجب أن يُضبط، وأن لا يُرى في الشارع في النزاعات وفرض العضلات كما كان في السابق، وإلا اتُهم ..ووجب نزعه ..
أما أن يُطرح في إطار تفاهمات داخلية، فهذه جريمة لا تعدلها جريمة ..ولا يُمكن القبول بها ضمن نقاش ملف المصالحة سوى في الإطار الموضح أعلاه، أما في إطار سياسي، فإنني أتفق تماماً مع فكرة نزعه أو إلقائه في البحر حتى، لو كان هنالك ثمناً سياسياً حقيقاً، مثل دولة ذات سيادة على حدود 67، وبعدها لكل حادث حديث.

أخشى ما أخشاه، أن ما يتم هو استمرار حقيقي، ودور التفافي لدحرجة الكرة، وتحويل الدفة مرّةً أخرى لتمرير تلك الصفقة اللعينة بحيث تُصبح مسيحاً لشعب أنهكته المعاناة، والتي ستعقبها على الأغلب أثمان فادحة جداً.




الأربعاء، 18 أكتوبر 2017

لماذا لم يرسل الله ملائكة بدلاً من البشر ..؟!




معضلةٌ واحدة قد تستغرق أعواماً حتى تتبدى ..و تُدرك مغزاها ويتبيّن لك وجهها الأمثل الذي تُحمل عليه ..

وقد تكون المعضلة أو الإشكال في فهم أمور علمية أو حياتية ..أو دينية، ولا يدّعي أحدٌ أنه لم تعرض له تساؤلات جوهرية في الدين حتى، إلا من كان فاقداً لمَلكة التساؤل وإعمال الفكر ..وهذا مما ذمّه الدين على من وجدوا آباءهم على أمةٍ ومضَوا على آثارهم يقتدون ..

يقول تعالى: 
"قل لو كان في الأرض ملائكةٌ يمشون مطمئنين لنزلنا عليهم من السماء ملَكا رسولا" 
وهذه كما يبدو جاءت في معرِض احتجاج قريش وتبريرهم لعدم إيمانهم أن من بُعث إليهم برسالة السماء هو بشرٌ مثلهم ..وليس ملاكاً نورانياً ..

والحق يُقال ..أنني كنتُ كلما قرأت الآية ..أتعجّب حقيقةً من الحجة التي تطرحها كرد على القوم، هل هي كافية وشافية ..؟! ما الفكرة في طرح الاطمئنان بحد ذاته؟!

يلبث الإنسانُ من عمره في الناس سنيناً..فيرى صنوفاً وأنواعا، ويتعامل مع شتى الألوان والأشكال والعقول ..فيخلُص إلى حقيقة واحدة، هي استحالة اجتماع البشر على إبداء الرضا أو القناعة بأحدهم كائناً من كان ..سائراً بهم أيَّ سيرة ..من القبيحة للجميلة وما بينهما، رئيساً كان أو مسئولاً أو ربما كان في رِفقة من الأصحاب ..!

ولكن ما علاقة هذا بالأمر ..؟! 

العلاقة أنني بتُّ على قناعةٍ تامة أنه وحتى لو أرسل الله ملائكةً مقربين، تلك الكائنات الشفافة الصافية النورانية ..وسارت بين الناس تدعوهم إلى الله ..ثم اعتاد الناس وجودهم وزالت تلك اللحظة الباهرة من التعجب والاستغراب من هيئاتهم مع الوقت ومرور الزمان، فإن أولئك المساكين لن يسلموا من أن يُطعنوا في ظهورهم ..وأن تجلدهم الألسنة الحِداد في كل مجلس ..رغم سلوكهم الملائكي المفطورين عليه ..بل ربما جُلدوا أكثرَ من الشياطين نفسها لو تخيّلنا أن خيار استعمال الشياطين لمهمة موازية وارداً ..فقد أثبتت الحياة أن شياطينها يحظون بتقدير الناس ومهابتهم أكثر من ملائكتها ..

لذلك كله ..ولمدى لطافةِ تكوينهم وحساسيةِ أرواحهم ..فإن جَلْدهم ولو كان بالألسنة فقط ومن أوغاد القوم كفيلٌ بسلب اطمئنانهم والذهابَ به، في انحراف مخيف لنواميس الكون فكان الطين أولى بتقويم بالطين ..ومنه على ما تقدم بعث الله المرسلين ..

ـــــــــــــــــــ
يقول المتنبي: 
رَأيتُكُم لا يَصُونُ العِرْضَ جارُكمُ
وَلا يَدِرُّ على مَرْعاكُمُ اللّبَنُ
جَزاءُ كُلّ قَرِيبٍ مِنكُمُ مَلَلٌ 
وَحَظُّ كُلّ مُحِبٍّ منكُمُ ضَغَنُ
وَتَغضَبُونَ على مَنْ نَالَ رِفْدَكُمُ 
حتى يُعاقِبَهُ التّنغيصُ وَالمِنَنُ

الجمعة، 22 سبتمبر 2017

ماسح الجوخ .. والخداع النفسي ..

  




لم يخلُ زمانٌ ولا مكان من مسّاحي الجوخ .. فأينما حلّ مسئولٌ أو ارتحل..ظهر وتفتّق في المكان، من حيث لا تدري، وتماماً في اللحظة التي يجلس فيها صاحب السعادة على كرسيّه، من يمتشق طبلته ومزماره ليبدأ وصلة التملق المنفرد! 

هدفه هو حجب آذان المدير عن أي صوت محيط، سوى عن نغمته الفريدة في ممارسة التطبيل المتفاني.. وإلقاء معلقات المديح التي تتفوق طولاً عمّا خلده امرؤ القيس وابن كلثوم معاً .. كجلمود "نقصٍ" أتى به حبُ الوصول من أسفل السافلين! 

أدواته ..حنجرة خليعة لا تملّ .. عيون وآذان تترصد الوقت الذي قد يصدر فيه نقاش لأحد قرارات صاحب المعالي، تتنبه غريزة المتسلق القابعة داخله، ويبرز الثعلب ..في ثياب المدافع عن حنكة القائد المؤيد بأمر الله، وصوابية رؤيته، وبُعد نظره اللانهائي، وأنه يمتلك شفافية لا تُقارن في استقراء المستقبل وحتى استشعار واستحضار الماورائيات! كل ذلك يستطيع أن يصوغه بأسلوب منمّق منقطع النظير، ولو كان الحديث أو النقاش يدور حول سعر كيلو الدجاج بالأمس، أو حول التدهور الخطير الذي طرأ على أسعار البطاطس في الآونة الأخيرة! 

ومن أساليبه الناجعة هي محاولة اصطناع الإنجازات الوهمية، وإبراز الحبة وكأنها قبة أو جبل أشم، ليجدد من حظوته ومكانته وأنه الأقرب للمسئول، والأكثر جدارةً بأن يُعتمد عليه. والمهم أن يؤكد مراراً بأن كل ما تم إنما هو برعاية رشيدة وبتوجيهات حكيمة من صاحب السمو التي لولاها لما كان ما كان من إنجاز عظيم..! 

الكارثة في هؤلاء القوم هي أنهم يضربون على وتر الطنبور الأعذب، الذي لا تخلو منه أيّة نفس إنسانية، ومن حصول الانتشاء لها باهتزازه، ولو ادعت أو أظهرت خلاف ذلك بدعوى التواضع، وهو حب سماع المديح والإطراء من الغير، حول الإمكانات المميزة التي تحظى بها. 

لكن ..لا تتمثل حقيقةً موضع المصيبة في هذا الفعل لذاته، فعل الإطراء، فهو قد يكون محموداً في مواضع، وربما مطلوباً كذلك في مواضع أخرى من باب التشجيع الدافع على الاستمرارية، كذلك إذا صدر من الأعلى للأدنى دون حصول الحاجة أو المصلحة، كان شهادة منقطعة النظير، أما إن صدر من الأدنى إلى الأعلى فهو حمّال أوجه، ووجهه الأسوأ هو حينما يكون أحد عوامل الضرر بالمصالح. 

وبيان ذلك أن الشخص "ماسح الجوخ" لا يرى ولا يدفعه إلا مصالحه الخاصة، والوقت المثالي الذي يبرز فيه لينال الحظوة هو وقت نقاش وتمحيص القرارات من قِبل الموضوعيين والمهنيين، الحريصون على انبثاق القرارات الأنسب بطرح وجهات النظر التي قد تكون غابت عن ذهن المسئول، وهذا وارد وواقعي في أي زمان ومكان.  
يبرز المدّاح ويحجب تلك الأصوات، التي هي أهم وأبقى لمصلحة العمل ومصلحة العباد من أرتال المديح التي تُضيّق من زاوية الرؤيا ..وتزيّن الخطأ لتجعله عين الصواب ..فتُعتمد بعدها الخيارات الأقل فعالية والأضيق أفقاً .. ويتحقق مبتغاه في أن يكون "محظياً" لدى أصحاب المعالي! 

الغريب والحقيقة الثابتة، أنه في العادة أو "من المفترض" أن يتصف المدراء والوزراء بالذكاء العالي المتفوّق على أقرانهم وعلى الكثير من غيرهم بما أوصلهم إلى المكان الذي يشغلونه، إلا أنهم آخر من يكتشف أو يستشعر بوجود "ماسح الجوخ".


الأربعاء، 20 سبتمبر 2017

قطط أم قراصنة ..؟!


تناقل الرواةُ أن سرعة الانترنت في غزة تتمتع بسرعة تفوق "الرهْوان*" ..! 

وحدثني من أثقُ بحديثه أن فاتورة الهاتف تحمل معها قسْراً وحصراً رسْم أو مكْس فتح النافذة، ليتسنى لك التقاط نصيبك من القطرات من شركة تُدعى "مزوّد خدمة"، وهي باختصار كيان يؤدي وظيفة "الماريونيت" ..والدليل أنك لا تشعر بأي اختلاف أو تباين في سرعة تلك "الخيل" ولو طُفتها تباعاً ماريونيتاً ..ماريونيتاً! 

عين المؤامرة الكونية تتمثل في عمليات المضاعفة المستمرة للسرعات، والتي لا تزيد من الانترنت إلا بؤساً ..وانقطاعاً ..فترى ال16 ميجا ويكأنها 516 كيلو في السرعة الأداء .. واعجبي! 

وقد روى الشعراء في ذلك أقوالاً، فورد عن امرؤ النت قوله: 


أرقامُ سُرعات والوهمُ موضعها *** كالسلحفاةِ تحاكي سرعةَ الفهدِ 


أما المتنبئ بالمأساة فقال: 


لا تُوصلُ النتَ إلا والأسى معه *** إنّ (السمانَ**) لأنجاسٌ مناكيدُ 


العجيب ..أن أسعار تلك الخدمات حقاً مرتفعة جداً مقارنة بأقوامٍ آخرين، أما الأعجب فهو مهارات القطط السمان في زيادة حصتهم من دمائك تحت بنود "الحملات"، ثم بعد ذلك كله لا تلتفت إلى التفاصيل فيما يخص تحصيل ثمار عمليات القرصنة التي لا تنقطع ..المهم هو قطعك أو تقطيعك في رواية أخرى ..!





وعلى سبيل المثال فقد تدحرجت في قطعك بأساليبها الابتزازية التي هي دائماً باقية ..وتتمدد، فكانت تقطع رأس الخدمة بعد ثلاث فواتير، ثم اثنتين بعد إنذارات وتذكيرات تستغرق أسبوع لكل من الخدمتين، الهاتف والانترنت، أما الآن فقد اقتربت من أوج السباق فلا تنتظرإلا 24 ساعة بعد رسالة التحذير شديدة اللهجة: "ادفع وإلا" ولا يعنيها أن تُجدول التحصيل مع رواتب الموظفين مثلاً بأن تنتظر فقط أياماً معدوداتٍ ثم لتفعل ما بدا لها، في ذلك الموظف الذي لا يتوقف أحد ليتنظره قليلاً.

المزعج حقيقةً أنها تدحرجت في تضييق السوار في الوقت الذي زاد فيه الضيق على الجميع، وكأنها ليست جزء من الشعب ولا تهتم بمعاناته، وهذا لعمري من أعجب ما سخرت منه الأقدار! 

أما الأوْج المنتظر، فهو أنك قريباً قد تدفع ثمن الخدمة قبل الحصول عليها، على طريقة القطة جوال .. 


ـــــــــــــــــــــــــــــ
* رهْوان: من رهْو، وهو الساكن اللين، يُقال: افعل ذلك رهْواً أي ساكناً على هينتك، وجاءت الخيل رهواً: متتابعة لينة، المصدر: المعجم الوسيط.
** السمان، يقصد القطط السمان، وهو اللقب الذي اشتُهرت به شركات مصاصي الدماء في عصره




الجمعة، 15 سبتمبر 2017

مصر ليست أمي ..دي مرات أبويا




يجمع الكتاب بين دِفتيه مجموعة من المقالات التي نشرها الكاتب الساخر ..من الطراز النادر أسامة غريب في صحيفة المصري اليوم، تناولت غالبيتها حالة الانحدار والسحق التاريخي الذي وصل إليه الإنسان في مصر (وينطبق من وجهة نظري على أغلب العالم العربي)  .. 



ولعمري ..لقد نكأ الكتاب الألم العربي في أوجع صوره .. ووضع أمام ناظريّ مقارنة عجيبة تشبه في إحدى أشكالها ميكانزم التبادل الحراري ..أو قل الانتشار الاسموزي .. بين واقع بلدتي البائسة غزة .. وبلده المنكوب مصر ..لكن المفارقة أن العنصر المتبادل ليس هو الحرارة ولا الأملاح ..بل الانحدار الإنساني في ظل حكومات مشوّهة لم تعرف من الحكم سوى تحقيق المغانم الشخصية .. وليحترق الوطن ..الذي أغرقْنا الدنيا بشعارات نصرته! 

أدركتُ غزة في الماضي في ظروف كانت أفضل بكثير مما تعيشه حالياً ..وربما لا أُغالي إن قلت أن الناس كانوا طبقة وسطى وطبقة عليا في الغالبية العظمى ..وهذا للأسف الشديد في عهد الاحتلال، وكذلك إلى حدٍ ما فيما تلاه من حكم السلطة الفلسطينية لبضعة سنوات ..ثم بدأ الانحدار بعد دخول الانتفاضة ..ليتواصل ويُحقق المزيد من "التدني" بتسارعٍ أعلى.. بعد الانتخابات ..فيتمدد ولا يتوقف يوماً واحداً حتى لحظات كتابة هذه السطور..! 


يُسلّط الكاتب الضوء على إحدى أهم جوانب الحياة اليومية في مصر، وهي مشاكل الازدحام والاختناقات المرورية، والأداء الحكومي في التعامل مع الأزمة، وحل إشكاليتها، بحيث تضع تركيزها في رفع الغرامات على السائقين والسيارات في إدعاء أنها طريقة مجدية وناجعة جداً لفرض القانون وضبط الحالة المرورية..بدلاً من نشره بطريقة حضارية تجعله يتحول إلى أخلاق ..لا إلى لعنة تلاحق الجيوب، فيتحول الشعب إلى مطاردين مطلوبين للجباية!
يسوق الكاتب مثالاً على أن لدى الحكومة الإمكانية الحقيقية لفرض القانون عندما ترغب في ذلك، وفي غضون فترة قليلة جداً، حينما يستشه بقصة صفقة حزامات الأمان التي جلبها أحد المسئولين ..فما كان من الدولة إلا أن هبّت لمساندته بتطبيق قانون ربط حزام الأمان لتُلزم به مصر خلال أسبوع ..تنتهي بعدها المتابعة لسير القانون بانتهاء الكمية ..وتعود أحزمة السيارات إلى مجاريها! 

ولعمري مرةً اخرى ..إني أتلمّس هذا في الأزمات التي عصفت بغزة، على رأسها أزمة الكهرباء التي فاقت كل حد ..فتدفقت على إثرها كل الحلول للسوق المحلية من لمبات الكاز ..ومولدات تعمل بالديزل ..وكشافات بتقنية الـLED، وأجهزة الـUPS، ومولدات صغيرة للأحياء بأسعار فاحشة لكيلو الكهرباء .. وليس انتهاءً بأنظمة الطاقة الشمسية ..! ورائحة البيزنس الحكومي لا تكاد تفارق الحكاية ..! 

تحدث كذلك عن الصعود السريع والغريب لأشخاص لا يملكون تاريخاً سياسياً أو نضالياً ..أو مهنياً -كأضعف الإيمان!. 
هؤلاء الأشخاص غير المؤهلين لإدارة حديقة، يدفعون بأدائهم -إن صح تسميته بذلك- الشعوب إلى أن تتحسر على أيام السابقين، رغم أنهم لم يكونوا في حالة رضا تام عنهم! وهذه أيضاً إحدى المصائب التي أصابتنا فيها العدوى كذلك ..! 

تحدث عن كفاح الشباب ..ليبني كل واحدٍ منهما نفسه بنفسه بعيداً عن تقصير الحكومة اللامتناهي ..وضرب حكاية ممدوح مونتجومري كمثال على هذا البؤس .. 
وقد بلغ بنا الأمر ..ما بلغ بمونتجومري حينما نرى الحكومة العاجزة تحاول فرض النظام على شباب بائس يعاني حتى يجد عربة صغيرة يصنع عليها الشاي أو القهوة، والذرة "للغلابا"، أو ينجح في الحصول على بعض البضائع فيسعى لبيعها في أي سوق وعلى أي رصيف من أرصفة الوطن، فما يكون من الحكومة إلا أن تكافحه بشدة، وكأنه حشرة أضرّت بالمظهر العام للبلد، وأثرّ على حركة السياحة! فتصادر ما يملك بحجة فرض القانون ..دون أن يكون لها القدرة على توفير بدائل كريمة له، ودون أن يُدركوا أن ما يمارسونه هو قتل يومي لبقايا الإنسان ولأبسط أحلام الشباب ..! 


وكان مما انتقده كذلك ..وزراء ومسئولي الكارت ..أو ما نسميّهم عندنا "الباراشوت" ..ممن خربشوا الكارت على طريقة "اكشط واربح" فوجدوا أنفسهم وزراء ومسئولين عن أرواح العباد ..دونما تدرج أو مسئولية ..
ممدوح مونتجومري كان له رأي غريب وجميل في أولئك القوم، فهو لا يرى داعي للحنق أو الغضب من أدائهم!  

تحدث الكاتب عن الكثير ..والكثير ..من التخبط في العلاقات السياسية ..إلى قمع الحريّات التي تتم على أيدي مطحونين لأناس مطحونين .. تحدث عن سحق الموظفين العمومين، الذين هم عماد الدولة، وما تم من عملية قتل وتصفية لضمائرهم والتي أودت بهم إلى الفساد الإداري والرشوة وغيره نتيجة الفاقة المدقعة -ليس مبرر لكنه بالضرورة سبب تفاقم- كل ذلك وغيره وجدته قد أصابنا حتى أسميتُها عملية تمصير غزة ..لكن يا ليته بمحاكاة ما كان فيها من جمال ..بل باقتباس جوانب التعاسة ..والتعاسة فقط ..! 

أما الجانب الآخر ..والذي رأيته يتسرب من بلدتي التي أُصيبت بشتى أنواع الأدواء ..إلى مصر وإلى غيرها من الدول العربية ..هو داء العنصرية والحزبية والتعصب الأعمى ..
عِشتُ في مصر شيء بسيط من طفولتي ..وأذكر أنني احببتها حقاً ..ذلك أنني شعرتُ بالحنين واختلاف الحياة (للأسوأ) حينما تغيّرت طباع الناس من حولي ..من مصر إلى غزة ..
مصر حيث الحب ..والناس البسطاء ..والنفوس الصافية ..حيث لا نزْعات فتح وحماس وتكفيري وخلافه ..باتت حالياً مصابة بمثل ما أصابنا بل ربما لمستوى أسوأ .. وما ممارسة الردح على الفضائيات -مما كنّا ولا زلنا نراه بين مسئوليّنا- عنّا ببعيد ..! 
ولشد ما كانت صدمتي أن رأيتُ ما يُماثله كذلك في الشعب السوري ..جسدته دراما "بقعة ضوء" التي كانت وما زالت تعكس الحالة السورية منذ سنين .. سوريا الجمال كذلك ..؟! يا لشدة بؤسنا! 
وكأنّي بالعالم العربي لا يتبادل أو يُصدّر سوى التعاسة والبؤس والسوء..في عملية انتشار غير ميمونة ..تُشبه الانتشار الاسموزي الذي اخترته للتشبيه ابتداءً ..! 

وبرغم كل المآسي والتبعات للعنة أن تكون عربي والتي ذُكر شيء منها أعلاه، اللعنة التي تلاحق حياتك اليومية ..والتي رغم حضورها الدائم تُحاول أن تصنع فيها شيئاً بديعاً ..أن تعيش الجمال ..الحب ..تبتعد عمّا ينغصك ..إلا أنها تأبى إلا أن تلاحقك مهما وضعتَ بينك وبينها حواجز ومصدات ..

على كلٍ .. رغم أن حوالي 90% أو أكثر من المقالات التي كتبها غريب كانت حول الأزمات ...إلا أنه لم ينس نصيبه من الحب .. 
ولتلطيف الجرعة المخيفة من البؤس أعلاه، أقتبس بعض ما ورد فيه، وما ذكر عن التقاط التوليفات! في "الحب والوقت ..من يقتل من؟" 












الأحد، 10 سبتمبر 2017

وفقاً لعلم الوراثة ..الأنثى هي (الأصل) والذكر (طارئ) ..!





في الـ(56) (اختيارية ستايل :) ) لما خلصت توجيهي وكانت دراسة الهندسة الوراثية في الخارج على رأس قائمة الأولويات بنفس السلم مع الفلك (إما هي أو الفلك حسبما يأتي أولاً ولم يرَ أي منهما النور) تشّربت مع نهاية العام الدراسي مقرر الوراثة بالفهم التفصيلي ..وباحترافية لم أفعلها في أي موضوع مدرسي من قبل، وبنشوة المستمتع فعلاً ..

أذكر أنني وقتها دوّنت الملحوظة (التغريدة) في الصورة أدناه ..وكان تساؤلاً غريباً حقاً يحتاج إلى وقفات وبحث.. لم أقم به في وقتها ..











اليوم ..في رحلة ممتعة للغاية، ومع بدايات كتاب "لعنة آدم" أضاء السرد بقعة في دماغي تراكم عليها غبار الزمن والأيام تقبع فيها تلك الفكرة القديمة، لأعود بنشوة ممزوجة بالحنين إلى خربشاتي القديمة.. وأراها كأُحفورةِ جميلة! 



الإضاءة التي لمعت كبرق أبرز إحدى رسومات كهف قديم، كانت حينما تحدث الكاتب -وهو بروفيسور برايان سايكس أحد علماء الوراثة في جامعة أكسفورد- عن قصة الكروموسوم واي في إشارة تُصنّف كبراعة استهلال من حيث إثارة الفضول، وهي وأن الأنثى هي (الأصل)، والذكر هو (الطارئ) ..! 


يا للهول (بصوت يوسف وهبي) ..







لم أصل بعد لتفاصيل الأدلة على ما خطّه وقرره، لكن في تدوينتي أحد الأدلة التي أتوقع أن أراها أو أقرأها في كتابه .. 


المعلومة الأخرى، التي واترتها الأخبار العلمية منذ مدة وأكدها سرد البروف، هي أنه قد لا يعود البشر بحاجة إلى الذكور في المستقبل -ربما قد يرتاح العالم من الحروب والصراعات حينها- إذ أن عملية استمرارية الجنس البشري قد تكتفي بالأنثى فقط ..كما هو مفصّل في الاقتباسة في الصورة..






ــــــــــــــ




رغم ذلك ..وبالانحياز الفطري لابد من نداء تحذيري للرجال ..ربما نتدارك الأمر وننشر الزهور ونحوّلها وردي ..ونفوّت الفرصة التاريخية على المرأة 😅

الاثنين، 21 أغسطس 2017

نزهة لا تُملّ ..في تحفة أهل الكهف ..


لا أدري كيف مرّت كل تلك السنون من عمري..دون أن أقرأ أهل الكهف ..!
رائعةَ المبدع توفيق الحكيم التي تُرجمت إلى الفرنسية والألمانية، والتي أسهرت ليلي حتى مقربةٍ من مطلع الفجر، رُغم تضوري جوعاً للنوم ..لكن حقاً لم أستطعه قبل إنهائها!



كلنا يعلم أن النص الوحيد المتواتر والمتداول في إرثنا التاريخي للحكاية هو النص القرآني في سورة الكهف، وبعض من التفاصيل في التفسيرات وخلافه هي من إرث من سبقنا من الحكايات التي وردت في تراثهم تتحدث عن أولئك القوم النيام السبعة، الذين كانوا ثلاثةً رابعهم كلبهم في مسرحية توفيق الحكيم الكتابية.

حقّاً ..كم قرأنا سورة الكهف، لكن أغلبنا كان يعوم على السطح، دون أن يمتلك الجرأة للغوص في تخيّل تفاصيل القصة، تفاصيل الأحداث وردّات الفعل والحوارات، والانفعالات ..المشاعر التي اجتاحت القوم حين استيقظوا وهم على يقين تام في قرارات أنفسهم أنهم ما ناموا إلا يوماً أو بعض يوم! ثم الانقلابة المخيفة حينما تتبين لهم الحقيقة!

لم نتساءل يوماً إن كان الفتيّة حقاً مسرورين، راضيين ومطمئنين بما حدث لهم من سُبات طويل جداً أم أن هول الفكرة قد يعصف بكل شيء؟!
كيف كان اجتماعهم ..وما حقيقةُ إيمانهم ..! كيف مرّت الأحداث بكل فردٍ منهم بعد خروجه من الكهف ..بعد ثلاثمائة سنين وازدادوا تسعا ..! ولماذا يا تُرى كانت هذه المدة بالتحديد دون غيرها؟!

الحكيم ..غاص في كل تلك التفاصيل وغيرها ..لا أدري هل كانت كلها من نسج خياله ..أم أنه استند لبعض الحكايات التاريخية وحكايات التراث ..


وبمناسبة حكايات التراث ..فقد روى الحكيم بطريقة بديعة، قطّعها على نصفين باحترافية روائية، قصة من التراث الياباني عن شاب يُدعى أوراشيما، عاش تجربة مماثلة، وغاب عن قومه أربعة قرون في (مملكة البحر).

السرّ في جمال ما خطّه الحكيم هو في إسقاطاته وإضاءاته الواقعية للقصة، وفي تعامله مع النفس الإنسانية وكأنه يتمثل أمامه الحوارات التي تدور في كل مشهد، حتى لكأني به نقل اختلاجات نفوسهم ورفّات قلوبهم ..وإيماءات وجوههم!
من وجهة نظري ..جاءت إضاءاتين بالتحديد، بمثابة الأكثر سطوعاً.
الأولى: القوة العظيمة للحب ..فهو أعظم الروابط قاطبةً ..ويحمل أبلغ الأسباب. فهو يمنح للحياة معنى إن حضر..أو ينزعه إن غابَ أو أشاح بوجهه.
كان هذا المعنى في التفاصيل التي عاشها كل واحد من الثلاثة ..
فأما الراعي يمليخا ..فكان أولهم انسحاباً إلى الكهف ..بعد قومته لأنه أدرك أن أغنامه التي تركها في مكان أمين -وكان هذا منتهى حبه- ما عاد لها وجود ..وانتهى رابطه مع الحياة بذهاب أغنامه، وبشعوره بالشذوذ عن الواقع والناس والتاريخ.



وأما الوزير مرنوش ..فقد كان يتحرّق شوقاً للقاء ولده وزوجته، ويحرص أيما حرص أن يعود بالهدية التي وعد ابنه بها ..



وآخرهم مشلينيا ..الذي لا يُطيق بعداً عن محبوبته ابنة الملك الوثني دقيانوس ..التي كانت على دينه، وكان الغرام بينهما هو الرابط الأشد والأقوى ..!






  
الثانية: هي التسليط الشديد الذي أسقطه الحكيم على عقول الفتية. كيف لها أن تستوعب حقيقة الانفصال عن التاريخ لثلاثة قرون ..ثم العودة إليه. كيف لعقلٍ بشري أن يُطيق هذا الأمر دون أن يتقاذفه الشك والإيمان، أو أن يشكّ هل هو في واقعٍ أم يسرح في خيالاتٍ من أحلامه!  
كيف يُمكن أن يراك الناس ..وكيف ترى أنت الناس لو مررت حقاً بهذا الأمر؟! أيُّ عقلٍ يستوعب!

ولذلك ..كانت من أعظم الرمزيّات قاطبةً التي وظّفها الحكيم، هي رمزية الكهف ..رمزيته كملجأ من الحياة الخارجة عن نطاق الاستيعاب والمألوف .. الحياة التي يصعب أن تندمج بها، فتشعر بالغربة ..وإن كان العنوان العام أنها بلدك وبلدتك ..! أن تختار العودة إليه –أي الكهف- بكامل اختيارك، بعد أن مُنحت هبّة قد يراها الناس عظيمة ..لكن لأنك فقدت عظيمَين رابط الحب ..ومنطق العقل ..!




تألق الحكيم في وضع المشهد الأخير ..مشهد العودة إلى الكهف ..مشهد الشك فيما عاشوه من أحداث ..حتى بدت لهم حلماً ..لا يمكن أن يكون حقيقة!
مشهد موت الراعي وهو لا يدري أهو ميّت أم حي ..مستيقظٌ أم نائم ..



مشهد موت مرنوش ..وهو يترنح بين الشك واليقين في إيمانه ..بل ربما مجرداً منه ..



وأخيراً المشهد الخرافي لموت مشلينيا على ذراعي بريسكا ..شبيهة محبوبته التي عاشت قبل ثلاثة قرون ..والتي وقع أخيراً في حبّها ..ثم اختيارها المجنون ..الذي وكأني بالحكيم يُجسد فيه المثل الشهير: "الحب أعمى ..يقوده الجنون".

على جود ريدز ..يمكن تقييم أي كتاب كحد أقصى بخمس نجوم ..أما هذا من الظلم تقييمه بأقل من 7 ..

رابط التحميل ..لمن يُحب الغوص .. وبالأسفل مجموعة منوّعة من الاقتباسات.


قراءة ممتعة ..




































السبت، 19 أغسطس 2017

في انتظار البرابرة ..يُقضى على الشعب قبل أن يراهم ..!



البرابرة ..الخطر الداهم الذي يُحدق بالامبراطورية .. 

الخطر ..الذي استدعى من الدولة استنفار قواتها ورجالات مكتبها الخاص للنفير إلى البلدة الحدودية المحاذية لأولئك الوحوش المرتبصين بأمن وثروات البلاد ..



البلدة أصبحت بالتالي تحت تصرف ما يُشبه الحكم العسكري .."بمقدراتها" وبسكانها ..
قاضي البلدة ..قضى بها زهاء ثلاثين عاماً ..سمع من أسلافه عن البرابرة لكنه لم يرَ شرّهم قبل ذلك ..

يقع في غرام إحدى البربريات الأسيرات ..ثم يبدو له أن يذهب بها إلى قومها ..وتنقلب بعدها الدوائر عليه

هو يرى أن بلدته قد وقعت ضحية بروباغندا الدولة وجيشها ..ضحية يتم استغلالها بفزّاعة البرابرة ..

استغرق الكاتب طويلاً في تفاصيل الأفكار التي تراود القاضي حول الجنس والنساء ..وقد يرى القارئ العابر أنه ابتذل كثيراً أو خرج عن النص ..

لكن ما أراه أنه يحاول أن يُصوّر أن الحياة الهانئة بالأفكار البسيطة السطحية جداً أحياناً ..والبعيدة عن الشعارات الرنّانة التي تُطلَق لبقاء الحاكم، لا للقضايا العُظمى الحقيقية ..والأخطار الداهمة الفعليّة، هي أهم حقاً من جهاد الدولة، حينما يكون المقصود الحقيقي من ورائه هو الشعب ..بمقدراته ..وباستسلامه لحاكمه ..الذي يرفع راية حمايته زوراً وبهتانا..

القاضي يرى فعلاً أن مشكلة وزنه الذي خسره في السجن ..وفي حياة الذل التي آل إليها ..وهمومه الجنسية ..أهم بكثير من تُرهات الدولة التي تحرق في سبيلها شبابها..وشعبها.
الجيش يُطارد أهدافاً وهمية ..يتيه في الصحاري ..ويهيم على وجهه في تتبع أُناس أبرياء ..رُحّل ..ويتساقط الجنود في هذه المهمة الشاقة بوعورة دروبها لا أكثر ..ويُنهك الشعب خوفاً ..ويترك منازله ومساكنه مع كل إشاعةٍ أو صيحة ..

ينتهي المطاف بمن بقي من الجنود فارّاً من هول المخاسر ..التي تكفّلت بها الطبيعة ..بسبب استبداد امبراطوريتهم بهم ..ناهبين ما يمكن نهبه من تلك البلدة سيئة الحظ ..

وهكذا ..يظل البرابرة شمّاعة مهيّئة في كل مرحلة من مراحل فتور الدولة ..وضيق شعبها بها، أو تململه من طول عمر ظلمها، لأن تكون الأداة الأمثل لتذكير الناس أن حامي حماهم يقظ لكل عدو متربص بهم ..تعلم الدولة خطره على مصائرهم ..من حيث لا يعلمون ..! 

Twitter Delicious Facebook Digg Stumbleupon Favorites More